المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

171- وإن مثل من يدعو أولئك الكافرين الجاحدين إلى الحق والهدى - فلا يستجيبون له ولا يفقهون ما يدعوهم إليه - كمثل راعى الغنم يناجيها ، فلا تفقه منه شيئاً ولا يقرع سمعها إلا الصوت ولا تعي غيره ، فهم كذلك عن الحق صُمّ الآذان ، عُمْي البصائر ، خُرْس الألسنة ، لا ينطقون بخير ، ولا يصدرون عن عقل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

وبعد أن بين - سبحانه - فساد ما عليه أولئك المشركون المقلدون من غير نظر ولا استدلال ، أردف ذلك بضرب مثل لهم زيادة في قبيح شأنهم والزراية عليهم فقال- تعالى- :

{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ . . . }

{ وَمَثَلُ } الصفة والشأن ، وأصل المثل بمعنى المثل : النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب مضربه - وهو الذي يضرب فيه - - لمورده - وهو الذي ورد فيه أولا - ولا يكون إلا فيما فيه غرابه . ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة ، إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة .

و { يَنْعِقُ } من النعيق وهو الصياح . يقال : نعق الراعي بالغنم ينعق نعقاً ونعاقاً ونعقاناً ، صاح بها وزجرها .

والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول ، وقيل : الدعاء للقريب والنداء للبعيد .

والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات .

وأولهما : وهو الدعاء معناه : الصياح بالبهائم لتأتي .

وثانيهما : وهو النداء معناه : الصياح بها لتذهب .

قال الإِمام الرازي ما ملخصه : وللعلماء من أهل التأويل في هذه طريقان :

أحدهما : تصحيح المعنى بالإِضمار في الآية .

والثاني : إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار .

أما الذين أضمروا فذكروا وجوها :

الأول : كأنه قال : ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق ، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق . وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الدعاة إلى الحق ، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ، ووجه الشبه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد ، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلى الله عليه وسلم وألفاظه ، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها .

الثاني : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناقع في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجري مجراها من البهائم . فشبه الأصنام - في أنها لا تفهم - بهذه البهائم ، فإذا كان ولا شك أن من دعا بهيمة عد جاهلا ، فمن دعا حجراً أولى بالذم .

والفرق بين هذا القول والذي قبله أن هاهنا المحذوف هو المدعو ، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي .

أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره ، ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عباداتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم ، فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا ههنا .

ثم قال - رحمه الله - ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسرا لقلبه ، وتضييقاً لصدره ، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة في التقليد " .

وقوله - تعالى - { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } زيادة في تبكيتهم وتقريعهم ، أي : صم عن استماع دعوة الحق . بكم عن إجابة الداعي إليها ، عمى عن آيات صدقها وصحتها . فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه ، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر .

وقوله : { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وارد مورد النتيجة بعد البرهان ، بجانب كونه توبيخاً لهم ، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإِدراك وهما السمع والبصر ، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم ، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عله الاكتسابي ، فأصبح لا يفقه شيئاً ؛ لأن العقل الذي يكتسب به الإِنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث .

وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أنداداً ، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل ، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه - وفيما سيأتي بعده من آيات - كثيراً من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

158

ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة ، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح ، وهم صم بكم عمي :

( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) !

صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها ، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .

وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يتلى عليه في كتابه وسوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به ، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : وَمَثَلُ الّذين كَفَروا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِق بِمَا لا يَسْمَع إلاّ دُعاءً ونِدَاءً قال : مثل البعير أو مثل الحمار تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول .

حدثني محمد بن عبد الله بن زريع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ قال : هو كمثل الشاة ونحو ذلك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَل الّذِي يَنْعِقُ بمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَندَاءً كمثل البعير والحمار والشاة إن قلت لبعضها كل لا يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : مثل الدابة تنادي فتسمع ولا تعقل ما يقال لها ، كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمعَ قال : مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثَلِ الّذي ينعق مثل ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاء يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عني به .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كمَثَلَ الّذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاءً قال : هو مثل ضربه الله للكافر ، يقول : مثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها ، فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : هو مثل الكافر يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سألت عطاء ، ثم قلت له : يقال لا تعقل ، يعني البهيمة ، إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها ، فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون . فقال : كذلك . قال : وقال مجاهد : «الذي ينعق » الراعي «بما لا يسمع » من البهائم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثل الذي ينعق الراعي بما لا يسمع من البهائم .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كَمَثلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعى فتأتي أو ينادَى بها فتذهب ، وأما الذي ينعق فهو الراعي الغنم كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يدعى أو ينادى ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام يقول الله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ .

ومعنى قائلي هذا القول في تأويلهم ما تأوْلوا على ما حكيت عنهم : ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنمه ونعيقه بها . فأضيف المثل إلى الذين كفروا ، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام على ذلك ، كما يقال : إذا لقيت فلانا فعظمه تعظيم السلطان ، يراد به كما تعظم السلطان ، وكما قال الشاعر :

فَلَسْتُ مُسَلّما ما دُمْتُ حَيّا عَلى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير

يراد به : كما يسلم على الأمير . وقد يحتمل أن يكون المعنى على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت ، وذلك أنه لو قيل له : اعتلف أو رد الماء لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر ، مثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فيه ، مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه . فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :

وَقَدْ خِفْتُ حتّى ما تَزِيدُ مَخافَتِي على وَعِلٍ في ذِي الَمطارَةِ عاقِلِ

والمعنى : حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الاَخر :

كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَا كانَ الزّناءُ فَريضَةَ الّرجْمِ

والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم لوضوح معنى الكلام عند سامعه . وكما قال الاَخر :

إنّ سِرَاجا لَكَريمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُهْ

والمعنى : يحلى بالعين فجعله تحلى به العين . ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن يحصى مما توجهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحبه لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : اعرض الحوض على الناقة ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها .

وقال آخرون : معنى ذلك : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا .

فتأويل الكلام على قول قائل ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء ، أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً وَنِدَاءً قال : الرجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيبه فيها صوت يراجعه يقال له الصدى ، فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت لا ينفعه لا يسمع إلا دعاء ونداء . قال : والعرب تسمي ذلك الصّدى .

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجها آخر غير ذلك ، وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمع صوته غنمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه في عناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء .

وأولى التأويل عندي بالآية التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومن وافقه عليه ، وهو أن معنى الآية : ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنمه ونعيقه ، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه على ما قد بينا قبل .

فأما وجه جواز حذف «وعظ » اكتفاء بالمثل منه فقد أتينا على البيان عنه في قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وفي غيره من نظائره من الاَيات بما فيه الكفاية عن إعادته . وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها . ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويل من تأول ذلك أنه بمعنى : مثل الذين كفروا في ندائهم الاَلهة ودعائهم إياها .

فإن قال قائل : وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود ؟ قيل : دليلنا على ذلك ما قبلها من الاَيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به ، فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم . هذا مع ما ذكرنا من الأخبار عمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم . وبما قلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود كان عطاء يقول .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : إنّ الّذينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرونَ بِه ثَمَنا قَلِيلاً إلى قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار .

وأما قوله يَنْعِقُ فإنه يصوّت بالغنم النعيق والنعاق ، ومنه قول الأخطل :

فانْعِقْ بِضأنِكَ يا جَرِيرُ فإنّمَا مَنّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلاءِ ضَلالاَ

يعني : صوّتْ به .

القول في تأويل قوله تعالى : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون .

يعني تعالى ذكره بقوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، هؤلاء الكفار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، صمّ عن الحقّ فهم لا يسمعون ، بكم يعني خرس عن قيل الحق والصواب والإقرار بما أمرهم الله أن يقرّوا به وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبينونه للناس ، عميٌ عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة قوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : صم عن الحق فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ، عمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : صُمٌ بُكم عُمْيٌ يقول عن الحق .

حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .

وأما الرفع في قوله : صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله : فَهُمْ لا يَعْقِلُون كما يقال في الكلام : هو أصمّ لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 171 )

وقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } الآية ، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول ، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه .

قال القاضي أبو محمد : فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض ، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز( {[1544]} ) .

والنعيق زجر الغنم والصياح بها ، قال الأخطل : [ الكامل ]

انعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فإنَّما . . . منَّتْكَ نَفْسُكَ في الْخَلاَءِ ضَلاَلا( {[1545]} )

وقال قوم : إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان ، فهي تحمق راعيها ، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين( {[1546]} ) ، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله »( {[1547]} ) ، وقال الشاعر : [ البسيط ]

أَصْبَحْتُ هُزْءاً لراعي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بي . . . مَاذَا يرِيبُكَ منّيَ رَاعيَ الضَّانِ( {[1548]} )

فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحاً يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه( {[1549]} ) ، وقال ابن زيد : المعنى في الآية : ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئاً إلا دوياً غير مفيد ، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال ، ووجه الطبري في الآية معنى آخر ، وهو أن المراد : ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه ، فإنما شبه في هذين( {[1550]} ) التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به ، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

أصم عمّا ساءه ، سميع( {[1551]} ) . . . ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم { لا يعقلون } إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره : علوم ضرورية تعطيها هذه الحواس ، أو لا بد في كسبها من الحواس ، وتأمل( {[1552]} ) .


[1544]:- يعني أنه حذف الداعي من الأول لدلالة المدعوِّ عليه، وحذف المنعوق به من الثاني لدلالة الناعق عليه.
[1545]:- يريد: صح بغنمك يا جرير، واكتف بهذا عن المفاخر فلست لها أهلا، وإنما أنت من رعاة الغنم.
[1546]:- هذا التفسير خاص بالضأن، والأول عام في الضأن وغيره.
[1547]:- دريد هو: ابن الصِّمة، قال لمالك بن عوف – لما جاء إلى قتال المسلمين، وقد أمر هوزان أن يحملوا معهم أموالهم ونساءهم، أمِنْتَ أن تكون عليك، راعي ضأن والله، لا صحبتُك. وقصة حرب هوزان التي قصدت بها النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وقد سألت (دريد بن الصمة) الرياسة عليها، وكان قد بلغ العشرين بعد المائة – وكلام دريد فيه تجهيل لمالك، وبيان أنه لا يصلح للقيادة. وإنما هو راعي ضأن.
[1548]:- الشاعر هو: أمية بن الأسكر الليثي، أدرك الجاهلية والإسلام – وفي رواية: أصبحت قرداً لراعـي الضأن يسخر بـي ...................................
[1549]:- ومعنى ذلك – أنه وقع تشبيه الداعي بالناعق والكافر بالبهائم، وذلك خلاف ما يأتي عن ابن زيد والطبري.
[1550]:- أي تأويل ابن زيد وتأويل الطبري.
[1551]:- (أصَمُّ عَمّضا ساءَه سميع) مثل من الأمثلة العربية، أي أصمّ عن القبيح الذي يغمه، سميع للأمر الذي يسره. وفي معناه: حلمي أصم وأُذني غير صمّاء. أي أُعرض عن الخنا والفحش بحلمي وإن سمعته أُذني – وهو غير منسوب في اللسان – مادة "صمم".
[1552]:- المراد هنا العقل المكسوب دون المطبوع لأنه حاصل لهم، ولما كان الطريق لاكتساب العقل هو الاستعانة بهذه الحواس كان إعراضهم عنها فقْداً للعقل المكتسب، ومِن ثَمَّ قيل: مَنْ فقد حسًّا فقدْ فَقَدَ عقلا.