ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان وجه الحق فيها ، وأنذر الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه بسوء المصير . فقال - تعالى - : { ذلك عِيسَى . . . }
اسم الإشارة { ذلك } فى قوله : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } إشارة إلى ما ذكره الله - تعالى - قبل ذلك لعيسى من صفات حميدة ، ومن أخبار صادقة وهو مبتدأ ، وعيسى خبره ، وابن مريم صفته .
ولفظ : { قَوْلَ } فيه قراءتان سبعيتان إحداهما قراءة الجمهور بضم اللام ، والثانية قراءة ابن عامر وعاصم ، بفتحها .
وعلى القراءة بالرفع يكون { قَوْلُ الحق } خبر لمبتدأ محذوف . فيكون المعنى : ذلك الذى أخبرناك عنه بشأن عيسى وأمه هو قول الحق - عز وجل - وهو قول لا يحوم حوله باطل ، ولا يخاطله ريب أو شك . فلفظ { الحق } يصح أن يراد به الله - سبحانه - لأنه من أسمائه ، ويصح أن يراد به ما هو ضد الباطل ، وهو الصدق والثبوت .
وعلى قراءة النصب يكون لفظ { قَوْلَ } مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة ، أى : ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - من شأن عيسى ابن مريم ، هو القول الثابت الصادق . الذى أقول فيه قول الحق .
والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته أى : القول الحق ، كقوله - تعالى - { وَعْدَ الصدق } أى : الوعد الصدق .
وقوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } بيان لموقف الكافرين من هذا القول الحق الذى ذكره الله - تعالى - عن عيسى وأمه . و { الذي } صفة للقول . أو للحق . و { يَمْتُرُونَ } يشكون من المرية بمعنى الشك والجدل . . .
أى : ذلك الذى ذكرناه لك من خبر عيسى هو القول الحق ، الذى شك فى صدقه الكافرون ، وتنازع فيه الضالون ، فلا تلتفت إلى شكهم وكفرهم بل ذرهم فى طغيانهم يعمهون .
ولا يزيد السياق القرآني شيئا على هذا المشهد . لا يقول : كيف استقبل القوم هذه الخارقة . ولا ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب . ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول :
( آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) . . ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع . فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق ، بلهجة التقرير ، وإيقاع التقرير :
( ذلك عيسى ابن مريم . قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد . سبحانه . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن فيكون . وإن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم ) . .
ذلك عيسى ابن مريم ، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده . . ذلك هو في حقيقته وذلك واقع نشأته . ذلك هو يقول الحق الذي فيه يمترون ويشكون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي بيّنت لكم صفته ، وأخبرتكم خبره ، من أمر الغلام الذي حملته مريم ، هو عيسى ابن مريم ، وهذه الصفة صفته ، وهذا الخبر خبره ، وهو قَوْلَ الحَقّ يعني أن هذا الخبر الذي قصصته عليكم قول الحقّ ، والكلام الذي تلوته عليكم قول الله وخبره ، لا خبر غيره ، الذي يقع فيه الوهم والشكّ ، والزيادة والنقصان ، على ما كان يقول الله تعالى ذكره : فقولوا في عيسى أيها الناس ، هذا القول الذي أخبركم الله به عنه ، لا ما قالته اليهود ، الذين زعموا أنه لغير رِشْدَة ، وأنه كان ساحرا كذّابا ، ولا ما قالته النصارى ، من أنه كان لله ولدا ، وإن الله لم يتخذ ولدا ، ولا ينبغي ذلك له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقّ قال : الله الحقّ .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد الله ، قال : الّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، قال : كلمة الله . ولو وُجّه تأويل ذلك إلى : ذلك عيسى بن مريم القول الحقّ ، بمعنى ذلك القول الحقّ ، ثم حذفت الألف واللام من القول ، وأضيف إلى الحقّ ، كما قيل : إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ . وكما قيل : وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ، كان تأويلاً صحيحا .
وقد اختفلت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق : «قَوْلُ الحَقّ » برفع القول ، على ما وصفت من المعنى ، وجعلوه في إعرابه تابعا لعيسى ، كالنعت له ، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الذين زعموا أنه رفع على النعت لعيسى ، إلا أن يكون معنى القول الكلمة ، على ما ذكرنا عن إبراهيم ، من تأويله ذلك كذلك ، فيصحّ حينئذٍ أن يكون نعتا لعيسى ، وإلا فرفعه عندي بمضمر ، وهو هذا قول الحقّ على الابتداء ، وذلك أن الخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ثم ابتدأ الخبر بأن الحقّ فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى ، هو هذا القول ، الذي أخبر الله به عنه عباده ، دون غيره . وقد قرأ ذلك عاصم بن أبي النّجُود وعبد الله بن عامر بالنصب ، وكأنهما أرادا بذلك المصدر : ذلك عيسى ابن مريم قولاً حقا ، ثم أدخلت فيه الألف واللام . وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته : «ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم قالُ الحقّ » ، فإنه بمعنى قول الحقّ ، مثل العاب والعيب ، والذام والذيم .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : الرفع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وأما قوله تعالى ذكره : الّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فإنه يعني : الذي فيه يختصمون ويختلفون ، من قولهم : ماريت فلانا : إذا جادلته وخاصمته : وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقّ الّذِي فيهِ يَمْتَرُونَ امَتَرت فيه اليهود والنصارى فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذّاب وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وإله ، وكذبوا كلهم ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : الّذِي فيهِ يَمْتَرُونَ قال : اختلفوا ، فقالت فرقة : هو عبد الله ونبيه ، فآمنوا به . وقالت فرقة : بل هو الله . وقالت فرقة : هو ابن الله . تبارك وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا . قال : فذلك قوله : فاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ والتي في الزخرف . قال دِقْيوس ونسطور ومار يعقوب ، قال أحدهم حين رفع الله عيسى : هو الله ، وقال الاَخر : ابن الله ، وقال الاَخر : كلمة الله وعبده ، فقال المفتريان : إن قولي هو أشبه بقولك ، وقولك بقولي من قول هذا ، فهلمّ فلنقاتلهم ، فقاتلوهم وأوطؤوهم إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كلّ قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رُفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية ، فقال الثلاثة : كذبت ، ثم قال اثنان منهم للثالث ، قل أنت فيه ، قال : هو ابن الله ، وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للاَخر : قل فيه ، قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى قال الرابع : كذبت ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ، وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال ، فاقتتلوا ، فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله : وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يأْمُرُونَ بالقِسْطِ مِنَ النّاسِ قال قتادة : هم الذين قال الله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ اختلفوا فيه فصاروا أحزابا .
{ ذلك عيسى ابن مريم } أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى ، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه ثم عكس الحكم . { قول الحق } خبر محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه ، والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة . وقيل صفة { عيسى } أو بدل أو خبر ثان ومعناه كلمة الله وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب على أنه مصدر مؤكد وقرئ " قال الحق " وهو بمعنى القول الذي فيه يمترون في أمره يشكون أو يتنازعون فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله وقرئ بالتاء على الخطاب .
المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى { ذلك } الذي منه قصة { عيسى بن مريم } وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد ، «وأن الله ربي وربكم » هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلاً من البشر سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد يتحمل أن يكون قوله { ذلك عيسى } الى قوله { فيكون } إخباراً لمحمد إعتراضاً أثناء كلام عيسى ، ويكون قوله «وأن » بفتح الألف عطفاً على قوله { الكتاب } [ مريم : 30 ] . وقد قال وهب بن منبه : عهد عيسى إليهم «أن ربي وربكم » ، ومن كسر الألف عطف على قوله { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس «قولُ الحق »{[7955]} برفع القول على معنى هذا قول الحق . وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق «قولَ الحق » بنصب القول على المصدر{[7956]} . قال أبو عبدالرحمن المقري{[7957]} : كان يجالسني ضرير ثقة فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقرأ «قولَ الحق » نصباً ، قال أبو عبدالرحمن : وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعاً . وقرأ عبد الله بن مسعود «قال الله »{[7958]} بمعنى كلمة الله ، وقرأ عيسى «قال الحق »{[7959]} وقرأ نافع والجمهور «يمترون » بالياء على الكناية عنهم ، وقرأ نافع أيضاً وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند «تمترون » بالتاء على الخطاب لهم ، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول بعضهم هو لزنية ونحو هذا وهم اليهود ، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم ، وسيأتي شرح ذلك من بعد هذا .