المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

83- يسألك - أيها الرسول - بعض الكفار عن نبإ ذي القرنين ، فقل لهم : سأقص عليكم بعض أخباره .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

وقوله - سبحانه - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } معطوف على قصة موسى والخضر - عليهما السلام - عطف القصة على القصة .

قال البقاعى : كانت قصة موسى مع الخضر مشتملة على الرحلات من أجل العلم ، وكانت قصة ذى القرنين مشتملة على الرحلات من أجل الجهاد فى سبيل الله ، ولما كان العلم أساس الجهاد تقدمت قصة موسى والخضر على قصة ذى القرنين . . .

والسائلون هم كفار قريش بتلقين من اليهود ، فقد سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لقصة أصحاب الكهف . أن اليهود قالوا لوفد قريش : سلوه - أى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاث نأمركم بهن . . سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من أمرهم . . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . . وسلوه عن الروح .

وجاء التعبير بصيغة المضارع - مع أن الآيات نزلت بعد سؤالهم - لاستحضار الصورة الماضية ، أو للدلالة على أنهم استمروا فى لجاجهم إلى أن نزلت الآيات التى ترد عليهم .

أما ذو القرنين ، فقد اختلفت فى شأنه أقوال المفسرين اختلافا كبيرا ، لعل أقربها إلى الصواب ما أشار إليه الآلوسى بقوله : وذكر أبو الريحان البيرونى فى كتابه المسمى " بالآثار الباقية عن القرون الخالية " ، أن ذا القرنين هو أبو كريب الحميرى ، وهو الذى : افتخر به تبع اليمنى حيث قال :

قد كان ذو القرنين جدى مسلما . . . ملكا علا فى الأرض غير مفند

بلغ المغارب والمشارق يبتغى . . . أسباب ملك من حكيم مرشد

ثم قال أبو الريجان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب ، لأن ملوك اليمن كانوا يلقبون بكلمة ذى . كذى نواس ، وذى يزن . إلخ . .

ومن المقطوع به أن ذا القرنين هذا : ليس هو الإِسكندر المقدونى الملقب بذى القرنين . تلميذ أرسطو ، فإن الإِسكندر هذا كان وثنيا . . بخلاف ذى القرنين الذى تحدث عنه القرآن ، فإنه كان مؤمنا بالله - تعالى - ومعتقدا بصحة البعث والحساب .

والرأى الراجح أنه كان عبدا صالحا ، ولم يكن نبيا .

ويرى بعضهم أنه كان بعد موسى - عليه السلام - ، ويرى آخرون غير ذلك ومن المعروف أن القرآن الكريم يهتم فى قصصه ببيان العبر والعظات المستفادة من القصة ، لا ببيان الزمان أو المكان للأشخاص .

وسمى بذى القرنين - على الراجح - لبلوغه فى فتوحاته قرنى الشمس من أقصى المشرق والمغرب .

والمعنى : ويسألك قومك - يا محمد - عن خبر ذى القرنين وشأنه .

{ قل } لهم - على سبيل التعليم والرد على تحديهم لك . { سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } .

والضمير فى " منه " يعود على ذى القرنين و " من " للتبعيض .

أى : قل لهم : سأتلو عليكم من خبره - وسأقص عليكم من أنبائه عن طريق هذا القرآن الذى أوحاه الله إلى ما يفيدكم ويكون فيه ذكرى وعبرة لكم إن كنتم تعقلون

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

83

وتبدأ قصة ذي القرنين على النحو التالي :

( ويسألونك عن ذي القرنين . قل : سأتلو عليكم منه ذكرا ) . .

وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال : " حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال " بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . . فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله [ ص ] ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول . ما كان من أمرهم ? فإنهم كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . ما كان نبؤه ? وسلوه عن الروح ما هو ? فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور . . . فأخبروهم بها . فجاءوا رسول الله [ ص ] فقالوا : يا محمد أخبرنا . . فسألوه عما أمرهم به . فقال لهم رسول الله [ ص ] " أخبركم غدا عما سألتم عنه " - ولم يستثن - فانصرفوا عنه . ومكث رسول الله [ ص ] خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة ؛ وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزن رسول الله [ ص ] مكث الوحي عنه ؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبرائيل - عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : ( ويسألونك عن الروح . . . )الآية .

هذه رواية . . وقد وردت عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة ، ذكرها العوفي . وذلك أن اليهود قالوا للنبي [ ص ] : أخبرنا عن الروح . وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله ? ولم يكن نزل عليه شيء . فلم يحر إليهم شيئا . فأتاه جبريل فقال له : ( قل : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . . إلى آخر الرواية .

ولتعدد الروايات في أسباب النزول ، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن . ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين . لا ندري - على وجه التحقيق - من الذي سأله . والمعرفة به لا تزيد شيئا في دلالة القصة . فلنواجه النص بلا زيادة .

إن النص لا يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه . وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن . فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود . إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة . والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان .

والتاريخ المدون يعرف ملكا اسمه الاسكندر ذو القرنين . ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن . فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا . وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحد معتقد بالبعث والآخرة .

ويقول أبو الريحان البيروني في المنجم في كتاب : " الآثار الباقية عن القرون الخالية " إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه . فملوك حمير كانوا يلقبون بذي . كذي نواس وذي يزن . وكان اسمه أبو بكر بن افريقش . وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومراكش وغيرهما ؛ وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه . وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس .

وقد يكون هذا القول صحيحا . ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه . ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته ، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم . فالتاريخ مولود حديث العهد جدا بالقياس إلى عمر البشرية . وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا . فليس هو الذي يستفتي فيها !

ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث . ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير . وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله . فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي .

وإذن فلم يبق إلا القرآن . الذي حفظ من التحريف والتبديل . هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي .

ومن البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين :

أولهما : أن التاريخ مولود حديث العهد ، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية ، لم يعلم عنها شيئا . والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها !

وثانيهما : أن التاريخ - وإن وعى بعض هذه الأحداث - هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف . ونحن نشهد في زماننا هذا - الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص - أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى ، وينظر إليه من زوايا مختلفة ، ويفسر تفسيرات متناقضة . ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق !

فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص ، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر ، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل . وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن ، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء . إنما هو مراء ! ! !

لقد سأل سائلون عن ذي القرنين . سألوا الرسول [ ص ] فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته . وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في هذه السيرة . فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم . وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة ، ولكنها لا تعتمد على يقين . وينبغي أن نؤخذ بحذر ، لما فيها من إسرائيليات وأساطير .

وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات : واحدة إلى المغرب ، وواحدة إلى المشرق ، وواحدة إلى مكان بين السدين . . فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث .