بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله ونعمه على عبده داود - عليه السلام - فقال : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق . . . }
والعشى : الوقت الذى يكون من الزوال إلى الغروب أو إلى الصباح . والإِشراق : وقت إشراق الشمس ، أى : سطوعها وصفاء ضوئها ، قالوا : وهو وقت الضحى . .
فالإِشراق غير الشروق ، لأن الشروق هو وقت طلوع الشمس . وهو يسبق الإِشراق أى : إن من مظاهر فضلنا على عبدنا داود ، أننا سخرنا وذللنا الجبال معه ، بأن جعلناها بقدرتنا تقتدى به فتسبح بتسبيحه فى أوقات العشى والإِشراق .
وقال - سبحانه - { معه } للإشعار بأن تسبيحها كان سبيل الاقتداء به فى ذلك ، أى : أنها إذا سمعته يسبح الله - تعالى - ويقدسه وينزهه ، رددت معه ما يقوله .
وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى - إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق . وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود .
وخص - سبحانه - وقتى العشى والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما .
ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلباً ذاكراً وصوتاً رخيماً ، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه . وبلغ من قوة استغراقه في الذكر ، ومن حسن حظه في الترتيل ، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون . وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها ، وتمجيدها له وعبادتها . فإذا الجبال تسبح معه ، وإذا الطير مجموعة عليه ، تسبح معه لمولاها ومولاه :
( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب ) . .
ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ . . الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق ، حينما يخلو إلى ربه ، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره . والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده . . لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ إذ يخالف مألوفهم ، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان ، وجنس الطير ، وجنس الجبال !
ولكن فيم الدهش ? وفيم العجب ? إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة . وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات . . حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارىء الوجود كله : أحيائه وأشيائه جميعاً . وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء ، فإن تلك الحواجز تنزاح ؛ وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم . فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة !
وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية ؛ وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحاً لله . وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان ، مع النبوة والاستخلاص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.