ثم بسر - سبحانه - المؤمنين بما يشرح صدورهم فقال : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } .
أى : ومن يعمل فى دنياه الأعمال الصالحات ، وهو مع ذلك مؤمن بكل ما يجب الإيمان به .
فإنه فى هذه الحالة { لاَ يَخَافُ ظُلْماً } ينزل به . ولا يخاف { هَضْماً } لشىء من حقوقه أو ثوابه .
يقال : هضم فلان حق غيره ، إذا انتقصه حقه ولم يوفه إياه .
قالوا : والفرق بين الظلم والهضم : أن الظلم قد يكون بمنع الحق كله ، أما الهضم فهو منع لبعض الحق . فكل هضم ظلم ، وليس كل ظلم هضما .
فالآية الكريمة قد بشرت المؤمنين ، بأن الله - تعالى - بفضله وكرمه سيوفيهم أجورهم يوم القيامة ، بدون أدنى ظلم أو نقص من ثوابهم ، فالتنكير فى قوله { ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } للتقليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } .
يقول تعالى ذكره وتقدّست أسماؤه : ومن يعمل من صالحات الأعمال ، وذلك فيما قيل أداء فرائض الله التي فرضها على عباده وَهُوَ مُؤْمِنٌ يقول : وهو مصدّق بالله ، وأنه مجازٍ أهل طاعته وأهل معاصيه على معاصيهم فلا يَخافُ ظُلْما يقول : فلا يخاف من الله أن يظلمه ، فيحمل عليه سيئات غيره ، فيعاقبه عليه وَلا هَضْما يقول : لا يخاف أن يهضمه حسناته ، فينقصه ثوابها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قوله : " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ " قال : زعموا أنها الفرائض . ذكر من قال ما قلنا في معنى قوله : " فَلا يَخافُ ظُلْما وَلا هَضْما " :
حدثنا أبو كريب سليمان بن عبد الجبار ، قالا : حدثنا ابن عطية ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس لا يَخافُ ظُلْما وَلا هَضْما قال : هضما : غضبا .
حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : " لاَ يَخَافُ ظُلْما وَلا هَضْما " قال : لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم ، فيزاد عليه في سيئاته ، ولا يظلم فيهضم في حسناته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَمَنُ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْما وَلا هَضْما " يقول : أنا قاهر لكم اليوم ، آخذكم بقوّتي وشدّتي ، وأنا قادر على قهركم وهضمكم ، فإنما بيني وبينكم العدل ، وذلك يوم القيامة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فَلا يَخافُ ظُلْما وَلا هَضْما " أما هضما فهو لا يقهر الرجل الرجل بقوّته ، يقول الله يوم القيامة : لا آخذكم بقوّتي وشدتي ، ولكن العدل بيني وبينكم ، ولا ظلم عليكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هَضْما قال : انتقاص شيء من حقّ عمله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مِسْعر ، قال : سمعت حبيب بن أبي ثابت يقول في قوله : " وَلا هَضْما " قال : الهضم : الانتقاص .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " فَلا يَخاف ظُلْما وَلا هَضْما " قال : ظلما أن يزاد في سيئاته ، ولا يُهْضَم من حسناته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فَلا يَخافُ ظلْما وَلا هَضْما " قال : لا يخاف أن يظلم ، فلا يجزى بعمله ، ولا يخاف أن ينتقص من حقه ، فلا يوفى عمله .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن ميمون بن سِياه ، عن الحسن ، في قول الله تعالى : " فَلا يَخافُ ظُلْما وَلا هَضْما " قال : لا ينتقص الله من حسناته شيئا ، ولا يحمل عليه ذنب مسيء .
وأصل الهضم : النقص ، يقال : هضمني فلان حقي ، ومنه امرأة هضيم : أي ضامرة البطن ، ومنه قولهم : قد هضم الطعام : إذا ذهب ، وهَضَمْت لك من حقك : أي حططتك .
قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات } عادل لقوله { من حمل ظلماً } [ طه : 111 ] ، وفي قوله { من الصالحات } تيسير في الشرع لأنها { من } التي للتبعيض ، و «الظلم » أعم من «الهضم » وهما يتقاربان في المعنى ويتداخلان ، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى ، فقالوا «الظلم » أن تعظم عليه سيئاته وتكثر أكثر مما يجب ، و «الهضم » أن ينقض حسناته ويبخسها ، وكلهم قرأ { فلا يخاف ظلماً } على الخبر ، غير ابن كثير فإنه قرأ «فلا يخف » على النهي .
جملة { ومَن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ } الخ : شرطية مفيدة قسيم مضمون جملة { وقَدْ خَابَ من حَمَل ظُلماً } . وصيغ هذا القسيم في صيغة الشرط تحقيقاً للوعد ، و { فلا يخاف } جواب الشرط ، واقترانه بالفاء علامة على أن الجملة غير صالحة لموالاة أداة الشرط ، فتعين ؛ إما أن تكون ( لا ) التي فيها ناهية ، وإما أن يكون الكلام على نيّة الاستئناف . والتقدير : فهو لا يخاف .
وقرأ الجمهور فلا يخاف بصيغة المرفوع بإثبات ألف بعد الخاء ، على أن الجملة استئناف غير مقصود بها الجزاء ، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر لأنه مؤمن ويعمل الصالحات . وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم بحذف الألف بعد الخاء ، على أن الكلام نهي مستعمل في الانتفاء . وكتبت في المصحف بدون ألف فاحتملت القراءتين . وأشار الطيبي إلى أن الجمهور توافق قوله تعالى : وقد خاب من حمل ظلماً في أن كلتا الجملتين خبرية . وقراءة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من الظلم والهضم ، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية .
ومعنى { لا يخاف ظلماً } لا يخاف جزاء الظالمين لأنّه آمن منه بإيمانه وعمله الصالحات .
والهضم : النقص ، أي لا ينقصون من جزائهم الذي وُعدوا به شيئاً كقوله { وإنّا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص } [ هود : 109 ] .
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى النقص الشديد كما في قوله { ولم تَظْلم منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، أي لا يخاف إحباط عمله ، وعليه يكون الهضم بمعنى النقص الخفيف ، وعطفه على الظلم على هذا التفسير احتراس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.