ثم بين - سبحانه - المنزلة السامية التى جعلها لهذا القرآن ، والصيانة التامة التى أحاطه بها فقال : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } .
والمراد بأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، وسمى بذلك لأن جميع الكتب السماوية منقولة عنه . كما قال - تعالى - : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } .
وقيل : المراد بأم الكتاب : علمه الأزلى - عز وجل - .
أى : وإن هذا القرآن المبين لثابت ، وكائن فى اللوح المحفوظ ، وهو { لَدَيْنَا } أى : عندنا { لَعَلِيٌّ } أى : لرفيع الشأن ، عظيم القدر { حَكِيمٌ } أى : محكم النظم فى أعلى طبقات البلاغة . فلا يضيره تكذيب المكذبين ، ولا طعن الطاعنين .
فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على القيمة العظيمة التى جعلها - سبحانه - لهذا القرآن ، فى علمه - تعالى - وتقديره ، كما أن وصف هذا الكتاب بقوله { عَلِيٌّ حَكِيمٌ } يؤكد هذه المنزلة السامية ويقررها .
يقول تعالى ذكره : وإن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا لعليّ : يقول : لذو علوّ ورفعة ، حكيم : قد أحكمت آياته ، ثم فصلت فهو ذو حكمة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : حدثنا عروة بن عامر ، أنه سمع ابن عباس يقول : أوّل ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق ، قال : والكتاب عنده ، قال : وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى : وإنّهُ في أمّ الكِتابِ لَدَيْنا لِعَلِيّ حَكِيمٌ يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند الله منه نسخ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مالكا يروي عن عمران ، عن عكرمة وإنّهُ فِي أُمّ الكِتاب لَدَيْنا قال : أمّ الكتاب القرآن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإنّهُ في أمّ الكِتاب لَدَيْنا قال : أمّ الكتاب : أصل الكتاب وجملته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ : أي جملة الكتاب أي أصل الكتاب .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ يقول : في الكتاب الذي عند الله في الأصل .
وقوله : لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ وقد ذكرنا معناه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ يخبر عن منزلته وفضله وشرفه .
وقوله تعالى : { وإنه } عطف على قوله : { إنا جعلناه } وهذا الإخبار الثاني واقع أيضاً تحت القسم . و : { أم الكتاب } اللوح المحفوظ ، وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع .
واختلف المتأولون كيف هو في { أم الكتاب } ، فقال عكرمة وقتادة والسدي وعطية بن سعيد : القرآن بأجمعه فيه منسوخ ، ومنه كان جبريل عليه السلام ينزل ، وهنالك هو علي حكيم . وقال جمهور الناس : إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة .
وقرأ جمهور الناس : «في أُم » بضم الهمزة ، وقرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق وعيسى بن عمر{[10179]} .
عطف على جملة { إنا جعلناه قرآناً عربياً } [ الزخرف : 3 ] ، فهو زيادة في الثناء على هذا الكتاب ثناء ثانياً للتنويه بشأنه رفعةً وإرشاداً .
و { أمّ الكتاب } : أصل الكتاب . : والمراد ب { أم الكتاب } علمُ الله تعالى كما في قوله : { وعنده أمُّ الكتاب } في سورة الرعد ( 39 ) ، لأن الأمّ بمعنى الأصل والكتاب هنا بمعنى المكتوب ، أي المحقق الموثق وهذا كناية عن الحق الذي لا يقبل التغيير لأنهم كانوا إذا أرادوا أن يحققوا عهداً على طول مدة كتبوه في صحيفة ، قال الحارث بن حلزة :
حَذر الجَور والتطاخي وهل يَن *** قُض ما في المَهارق الأهواء
و { عليٌّ } أصله المرتفع ، وهو هنا مستعار لشرف الصفة وهي استعارة شائعة .
وحكيم : أصله الذي الحكمة من صفات رأيه ، فهو هنا مجاز لما يحوي الحكمة بما فيه من صلاح أحوال النفوس والقوانين المقيّمة لنظام الأمة .
ومعنى كون ذلك في علم الله : أن الله عَلمه كذلك وما عَلِمه الله لا يقبل الشك . ومعناه : أن ما اشتمل عليه القرآن من المعاني هو من مراد الله وصدر عن علمه . ويجوز أيضاً أن يفيد هذا شهادة بعلوّ القرآن وحكمته على حد قولهم في اليمين : الله يعلم ، وعَلِم الله .
وتأكيد الكلام ب ( إنَّ ) لردّ إنكار المخاطبين إذ كذّبوا أن يكون القرآن موحًى به من الله .
و{ لدينا } ظرف مستقر هو حال من ضمير { إِنهُ } أو من { أم الكتاب } والمقصود : زيادة تحقيق الخبر وتشريف المخبر عنه . وقرأ الجمهور في { أم الكتاب } بضمّ همزة { أم } . وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة { إِم الكتاب } في الوصل اتباعاً لكسرة { في } ، فلو وقف على { في } لم يكسر الهمزة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.