نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4)

ولما كانوا ينكرون تعظيمه عناداً وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات ، قال مؤكداً لذلك وتنبيهاً على أنه أهل لأن يقسم به ، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبهه ، بل ولا يدانيه بوجه : { وإنه } أي القرآن ، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتماماً بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده { في أم الكتاب } أي كائناً في أصل كل كتاب سماوي ، وهو اللوح المحفوظ ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال مرتباً للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده { لدينا } على ما هو عليه هناك { لعليّ } .

ولما كان العلي قد يتفق علوه ولا تصحبه في علوه حكمة ، فلا يثبت له علوه ، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه ، قال : { حكيم } أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخاً لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه ، ولا يبارى في حكيم معناه ، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره ، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء ، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء ، إلا بتفهيم العلي الكبير ، الذي هو على كل شيء قدير .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله :{ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب }[ الشورى : 14 ] ووصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتبرئ من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال

{ ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب }الآية [ الشورى : 15 ] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله{ وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً }[ الشورى : 7 ] وقوله{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }[ الشورى : 17 ] وقوله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } - إلى آخر السورة ، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }