ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن المتخلفين ، الذين لم يخرجوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم إلى صلح الحديبية ، فتحكى أعذارهم الزائفة ، وتفضحهم على رءوس الأشهاد ، وترد على أقوالهم الباطلة ، وتأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بالإِعراض عنهم ، وإهمال أمرهم ، فهم قوم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : لما بين - سبحانه - حال المنافقين ، ذكر المتخلفين - بعد ذلك - فإن قوما من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، لظنهم أنه يهزم ، فإنهم قالوا : أهل مكة قاتلوه على باب المدينة . . واعتذروا عن الخروج معه - صلى الله عليه وسلم - .
والمخلفون : جمع مُخلَّف ، وهو المتروك فى مكان خلف الخارجين من البلد كالنساء والصبيان ، فإنهم فى العادة لا يخرجون مع الرجال للجهاد ، وعبر عنهم بالمخلفين على سبيل الذم لهم .
والأعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده أعرابى ، والأثنى أعرابية ، والمقصود بهم هنا سكان البادية من قبائل غِفَار ، ومُزَينة ، وجُهَينة ، وأشجع ، وأسلم ، والدِّيل ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد دعاهم إلى الخروج معه إلى مكة ، ليساعدوه على إقناع قريش شفى الإِذن بدخول مكة للطواف بالبيت الحرام . . ولكنهم اعتذروا .
وقوله - سبحانه - سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا . . إعلام من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بما سيقوله هؤلاء المتخلفون له ، بعد عودته إليهم من صلح الحديبية .
أى : سيقول المخلفون لك - أيها الرسول الكريم - : إننا ما تخلفنا عنك باختيارنا ، ولكن انشغالنا بحفظ ورعاية أموالنا ونسائنا وأولادنا الصغار ، حال بيننا وبين الخروج معك إلى الحديبية ، وما دام الأمر كذلك { فاستغفر لَنَا } الله - تعالى - لكى يغفر لنا ذنوبنا التى وقعنا فيها بسبب هذا التخلف الذى لم يكن عن تكاسل أو معصية لك .
ولما كان قولهم هذا لم يكن صحيحا ، فقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } . أى : هو ليسوا صادقين فيما يقولون ، والحق أنهم يقولون قولا من أطراف ألسنتهم ، دون أن تؤيده قلوبهم ، فإن السبب الحقيقى لعدم خروجهم معك ، هو ضعف إيمانهم ، ومرض قلوبهم ، وتذبذب نفوسهم .
فالجملة الكريمة تكذيب لهم فيما قالوه ، وفضيحة لهم على رءوس الأشهاد .
ثم أمر الله - تعالى - أن يجابههم بقوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } . والاستفهام للإِنكار والنفى .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المتخلفين من الأعراب لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم قضاء الله - تعالى - ، إن أراد بكم ما يضركم من قتل أو هزيمة ، أو إن أراد بكم ما ينفعكم ، من نصر أو غنيمة ؛ لأن قضاء الله - تعالى - لا دافع له ، كما قال - سبحانه - : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ }
ثم أضرب - سبحانه - عن ذلك وقال : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أى : إن تخلفكم ليس سببه ما زعمتم ، بل الحق أن تخلفكم كان بسبب ضعف إيمانكم ، والله - تعالى - مطلع على أحوالكم اطلاعا تاما ، وسيجازيكم بما تستحقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سيقول لك يا محمد الذين خلفهم الله في أهليهم عن صحبتك ، والخروج معك في سفرك الذي سافرت ، ومسيرك الذي سرت إلى مكة معتمرا ، زائرا بيت الله الحرام إذا انصرفت إليهم ، فعاتبتهم على التخلف عنك ، شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا وأهلونا ، فاستغفر لنا ربنا لتخلّفنا عنك ، قال الله جلّ ثناؤه مكذّبهم في قيلهم ذلك : يقول هؤلاء الأعراب المخلّفون عنك بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وذلك مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم ، يقول : يسألونه بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية الله في تخلفهم عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول تعالى ذكره لنبيه : قل لهؤلاء الأعراب الذين يسألونك أن تستغفر لهم لتخلفهم عنك : إن أنا استغفرت لكم أيها القوم ، ثم أراد الله هلاككم أو هلاك أموالكم وأهليكم ، أو أراد بكم نفعا بتثميره أموالكم وإصلاحه لكم أهليكم ، فمن ذا الذي يقدر على دفع ما أراد الله بكم من خير أو شرّ ، والله لا يعازّه أحد ، ولا يغالبه غالب .
وقوله : بلَ كانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرا يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يظنّ هؤلاء المنافقون من الأعراب أن الله لا يعلم ما هم عليها منطوون من النفاق ، بل لم يزل الله بما يعملون من خير وشرّ خبيرا ، لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ، سرّها وعلانيتها ، وهو محصيها عليهم حتى يجازيهم بها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر عنه حين أراد المسير إلى مكة عام الحُديبية معتمرا استنفر العرب ومن حول مدينته من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه حذرا من قومه قريش أن يعرضوا له الحرب ، أو يصدّوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وتخلّفوا خلافه فهم الذين عَنَى الله تبارك وتعالى بقوله : سَيَقُول لَكَ المُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنا أمْوَالُنا وأهْلُونا . . . الآية .
وكالذي قلنا في ذلك قال أهل العلم بسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه ، منهم ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق بذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سَيَقُولُ لَكَ المُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَاب شَغَلَتْنا أمْوَالُنا وأهْلُونا قال : أعراب المدينة : جهينة ومزينة ، استتبعهم لخروجه إلى مكة ، قالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه ، فقتلوا أصحابه فنقاتلهم فاعتلوا بالشغل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنْ أرَادَ بِكُمْ ضَرّا فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة ضَرّا بفتح الضاد ، بمعنى : الضرّ الذي هو خلاف النفع . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين «ضُرّا » بضم الضاد ، بمعنى البؤس والسّقم .
وأعجب القراءتين إليّ الفتح في الضاد في هذا الموضع بقوله : أوْ أرَادَ بِكُمْ نَفْعا ، فمعلوم أن خلاف النفع الضرّ ، وإن كانت الأخرى صحيحا معناها .
{ المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل ، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا ، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك ، قالوا : شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا ، وهذا منهم خبث وإبطال ، فلذلك قال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }{[10412]} قال الرماني : لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة ، ثم قال لنبيه عليه السلام { قل } لهم : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً .
وقرأ جمهور القراء : «إن أراد بكم ضَراً » بفتح الضاد . وقرأ حمزة والكسائي : «ضُراً » بالضم ، ورجحها أبو علي وهما لغتان . وفي مصحف ابن مسعود . «إن أراد بكم سوءاً » . ثم رد عليهم بقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } .
{ سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أموالنا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ }
لمَّا حَذر من النكث ورغَّب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل : غفار ومُزْينة وجُهينة وأشْجَع وأسْلَمَ والدِّيل بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر مَن حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدّوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه . وكان من أهل البيعة زيدُ بن خالد الجهني من جهينة وخرج معَ النبي صلى الله عليه وسلم من أسْلم مائةُ رجل منهم مِرْدَاس بن مالك الأسلمي والدُ عبَّاس الشاعر وعبدُ الله بن أبي أوفى وزاهرُ بن الأسود ، وأهبانُ بضم الهمزة بنُ أوس ، وسلَمةُ بن الأكْوَع الأسلمي ، ومن غفار خُفَافُ بضم الخاء المعجمة بن أيْمَاء بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة ، ومن مزينة عَائذ بن عَمرو . وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذٍ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين ، وأعَدّوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم ، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قَبْللِ أن يعتذروا . وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث ، فكُمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد . والمعنى : أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم .
والمخلّفون بفتح اللام هم الذين تخلّفوا . وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه ، أي تركهم خلفه ، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقاً . يقال : خلفنا فلاناً ، إذا مَرّوا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خُروج النبي صلى الله عليه وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استُنفروا ولم يعتذروا حينئذٍ .
وأهلون : جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون ، فعُدّ مما ألحق بجمع المذكر السالم .
ومعنى فاستغفر لنا : اسألْ لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكرياء مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } الآية .
وجملة { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } في موضع الحال . ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة { سيقول لك المخلفون } .
والمعنى : أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار ، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة ، فقد روي أنهم قالوا : يذهب إلى قوم غزَوْهُ في عُقر داره بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم .
{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خبيرا } .
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما فيه ردّ أمرهم إلى الله ليُعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يُكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعاً نفعهم وإن كان أراد بهم ضَرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه . فلعله لا يغفر لهم ، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا في الاعتذار ليُكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده { قل للمخلفين من الأعراب ستُدعون إلى قوم } [ الفتح : 16 ] الآية .
فمعنى { إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً } هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضرّ وفي هذا الكلام توجيه بأن تخلّفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها .
ومعنى الملك هنا : القدرة والاستطاعة ، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أنْ يُهلك المسيحَ ابن مريم } في سورة العقود ( 17 ) .
والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيراً كقوله : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } [ المائدة : 41 ] . فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضياً الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئاً إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أرادَ بكم نفعاً ، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب ، ونظيرُه { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رَحمة } في سورة الأحزاب ( 17 ) . وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } في سورة الأعراف ( 188 ) فراجعه .
وقرأ الجمهور { ضَرا } بفتح الضاد ، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى ، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر ، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم . ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق ، أي إن أراد بكم ما يُضركم وما ينفعكم . ومعنى تعلق { أراد } به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم .
وهذا الجواب لا عِدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وَجَل ليستكثروا من فِعل الحسنات . وقُصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن يُغفر لهم ثم سيتبعه بقوله : { ولله ملك السماوات والأرض } [ آل عمران : 189 ] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع .
و { بل } في قوله : { بل كان الله بما تعملون خبيرا } إضراب لإبطال قولهم { شغلتنا أموالُنا وأهلونا } . وبه يزداد مضمون قوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } تقريراً لأنه يتضمن إبطالاً لعذرهم ، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله : { كان الله بما تعملون خبيراً } إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال .
وتقديم { بما تعملون } على متعلَّقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا . وما صْدَق { ما تعملون } ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيراً ما سمّى القرآن الاعتقاد عملاً . وفي قوله : { وكان بما تعملون خبيراً } تهديد ووعيد .