بدأت هذه السورة بأقسام تناولت ظواهر متعددة ، وتوجه النظر إلى آثار القدرة على أن المنكرين لله والبعث معذبون ، كما عذب الذين كذبوا من قبل ، وأخذت السورة تقرر سنن الله في ابتلاء عباده بالخير والشر ، وأن عطاءه وإمساكه ليس دليل رضاه أو سخطه ، وتوجه الحديث للمخاطبين بأن أحوالهم تكشف عن شدة حرصهم وشحهم ، ثم تختم بالإشارة إلى ما يكون من ندم المفرطين وتمنيهم أن لو قدموا من الصالحات ما ينجيهم ، مما يعاينونه من أهوال يوم القيامة ، وإلى ما يكون من إيناس النفس المطمئنة التي قدمت الصالحات ولم تفرط ، ودعوتها إلى الدخول مع المكرمين من عباد الله في جنة الله .
1- سورة " الفجر " من السور المكية الخالصة ، بل هي من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من سور قرآنية ، فهي السورة العاشرة في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة " والليل إذا يغشى " ، وقيل سورة " الضحى " . أما ترتيبها في المصحف فهي السورة التاسعة والثمانون .
وعدد آياتها : ثلاثون آية في المصحف الكوفي ، واثنتان وثلاثون في الحجازي ، وتسع وعشرون في البصري .
ومن أهم مقاصد هذه السورة الكريمة : تذكير المشركين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، كقوم عاد وثمود وفرعون ، وبيان أحوال الإنسان في حال غناه وفي حال فقره ، وردعه عن الانقياد لهوى نفسه ، ولفت نظره إلى أهوال يوم القيامة ، وأنه في هذا اليوم لن ينفعه ندمه أو تحسره على ما فات ، وتبشير أصحاب النفوس المؤمنة المطمئنة ، برضا ربها عنها ، وبظفرها بجنة عرضها السموات والأرض .
افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بالقسم بخمسة أشياء لها شرفها وعظمها ، ولها فوائدها الدينية والدنيوية . . ولها دلالتها الواضحة على كمال قدرته - تعالى - .
أقسم أولا - بالفجر ، وهو وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم ، ووقت بزوغ الضياء وانتشاره على الكون بعد ليل بهيم .
فالمراد بالفجر : الوقت الذى يبدأ فيه النهار فى الظهور ، بعد ظلام الليل ، والتعريف فيه للجنس ، لأن المقصود هذا الوقت من كل يوم .
وقيل المراد بالفجر هنا : صلاة الفجر ، لأنها صلاة مشهودة ، أى : تشهدها الملائكة ، كما أن التعريف فيه للعهد ، فقيل : فجر يوم النحر ، وقيل : فجر يوم الجمعة . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَلَيالٍ عَشْرٍ } يرجح أن المراد به وقت معين . هذا الوقت يوجد مع كل يوم جديد .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } .
هذا قسم أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفجر ، وهو فجر الصبح .
واختلف أهل التأويل في الذي عُني بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به النهار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأغرّ المِنقريّ ، عن خليفة بن الحصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، قوله : وَالْفَجْرِ قال : النهار .
وقال آخرون : عُنِي به صلاة الصبح . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والْفَجْرِ يعني : صلاة الفجر .
وقال آخرون : هو فجر الصبح . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا عاصم الأحول ، عن عكرِمة ، في قوله : والْفَجْرِ قال : الفجر : فجر الصبح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمر بن قيس ، عن محمد بن المرتفع ، عن عبد الله بن الزبير أنه قال : والْفَجْرِ قال : الفجر : قسم أقسم الله به .
لم يختلف في تسمية هذه السورة { سورة الفجر } بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة .
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية .
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور . نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى .
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله { ونعمه } منتهى آية ، وقوله { رزقه } منتهى آيه . ولم يعدها غيرهم منتهى آية ، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون .
فأهل الشام عدوا { بجهنم } منتهى آية . وأهل الكوفة عدوا { في عبادي } منتهى آية .
أغراضها حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه .
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم .
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها .
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها . وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة .
القَسَم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعةِ قدرته فيما أوجد من نظام يُظاهر بعضه بعضاً من ذلك وقتَ الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار ، ووقت الليل الذي تمحضت فيه الظلمة . وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادةِ الله وحده ، مثل الليالي العشر ، والليالي الشفع ، والليالي الوتر .
والمقصود من هذا القَسَم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المُقسِم ربه على ما تضمنه كلامه .
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد .
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] وقوله : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] .
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين .
والمقصد من تطويل القسم بأشياء ، التشويقُ إلى المقسم عليه .
و { الفجر } : اسم لوقتتِ ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإِظلام عن أول خط يلوح للناظرِ مِنَ الخطوط الفرضية المعروفةِ في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع .
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإِنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتَهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت ؛ ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم .
فالتعريف في { الفجر } تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف { والليل إذا يسر } .
ويجوز أن يراد فجر معين : فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة . وقيل : فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة ، فيكون تعريف { الفجر } تعريف العهد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال النسائي : أخبرنا عبد الوهاب بن الحكم ، أخبرني يحيى بن سعيد ، عن سليمان ، عن محارب بن دِثار وأبي صالح ، عن جابر قال : صلى معاذ صلاةً ، فجاء رجل فصلى معه فطَول ، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال : منافق . فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى ، فقال : يا رسول الله ، جئت أصلي معه فَطَوّل عَلَيّ ، فانصرفت وصليتُ في ناحية المسجد ، فعلفت ناضحي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفَتَّان يا معاذ ؟ أين أنت مِن { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْفَجْرِ } { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر . . ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال . ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع !
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد . . " والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر " . . .
وفي بعض مشاهدها شد وقصف . سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : " كلا . إذا دكت الأرض دكا دكا . وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى . يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " . .
وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة . تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : " يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " . .
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين . بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " .
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية . وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا : " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن " . . .
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات . وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : " كلا . بل لا تكرمون اليتيم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا جما " . .
ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم . فقد جاء بعده : " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا " . . الخ . . فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير !
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة . وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها . . كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي . بحسب تنوع المعاني والمشاهد . فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني . فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس !
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أغراضها: حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون . وإنذارهم بعذاب الآخرة . وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه . وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم . وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها . وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها . وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة ....
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
تحتوي السورة تذكيراً بعذاب الله الذي حل بالطغاة المتمردين من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وإنذارا لأمثالهم ، وتنديداً بحب المال والاستغراق فيه ، واستباحة البغي والظلم في سبيله ، وعدم البر باليتيم والمسكين ، ودحضا لظن أن اليسر والعسر في الرزق اختصاص من الله بقصد التكريم والإهانة . وفيها تصوير مشهد ما يكون من مصير البغاة يوم القيامة وحسرتهم ، وتنويه بالمؤمنين ذوي النفوس المطمئنة وبشرى لهم برضاء الله وجنته . وأسلوب السورة عام العرض والتوجيه مما يدل على تبكيرها بالنزول ، وفصولها وآياتها منسجمة مما يدل على نزول جملة واحدة أو متتابعة . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كبقية السور المكيّة ، فسورة الفجر ذات آيات قصار وأسلوب واضح ومصحوب بالإنذار والتحذير . . وتقدّم لنا الآيات الأولى أقساماً نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي . وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فساداً ( قوم عاد ، ثمود وفرعون ) ، وجعلهم عبرة لأولي الأبصار ، ودرساً قاسياً لكلّ مَن يرى في نفسه القوّة والاقتدار من دون اللّه . ثمّ تشير باختصار إلى الامتحان الربّاني للإنسان ، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات . . وفي آخر ما تتحدث عنه السّورة هو «المعاد » وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل ، وأيضاً ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد . ...
ابن العربي : روى ابن القاسم ، وأشهب عن مالك ، قال : الفجر أمره بيّن ، وهو البياض المعترض في الأفق . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا قسم أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفجر ، وهو فجر الصبح . واختلف أهل التأويل في الذي عُني بذلك؛
فقال بعضهم : عُنِي به النهار . ...
وقال آخرون : عُنِي به صلاة الصبح . ...
وقال آخرون : هو فجر الصبح ....
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كانت العرب من عادتهم أنهم إذا استحسنوا شيئا عظموه ، وإذا عظموه أقسموا به . ...
اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لابد وأن يكون فيها إما فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد ، أو فائدة دنيوية توجب بعثا على الشكر ، أو مجموعهما . ...
أقسم الله تعالى به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء ، وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق ، وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم ، وفيه عبرة لمن تأمل ، وهذا كقوله : { والصبح إذا أسفر } وقال في موضع آخر ، { والصبح إذا تنفس } وتمدح في آية أخرى بكونه خالقا له ، فقال : { فالق الإصباح }... وإنما أقسم بصلاة الفجر لأنها صلاة في مفتتح النهار وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل كما قال تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهودا } أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار القراءة في صلاة الصبح ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
الظاهر أن المقسم به ، هو المقسم عليه ، وذلك جائز مستعمل ، إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًا ، وهو كذلك في هذا الموضع . فأقسم تعالى بالفجر ، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار ، لما في إدبار الليل وإقبال النهار ، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى ، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة ، يحسن أن يقسم الله بها . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق . ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيقة : " والفجر " . . ساعة تنفس الحياة في يسر ، وفرح ، وابتسام ، وإيناس ودود ندي ، والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا ، وكأن أنفاسه مناجاة ، وكأن تفتحه ابتهال ! ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصد من تطويل القسم بأشياء ، التشويقُ إلى المقسم عليه . و { الفجر } : اسم لوقتِ ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإِظلام عن أول خط يلوح للناظرِ مِنَ الخطوط الفرضية المعروفةِ في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع . فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الانصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتَهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت ؛ ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم . فالتعريف في { الفجر } تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف { والليل إذا يسر } . ...
الفجر هو: الشق الواسع، يقال: فجرت الشيء، أي: جعلت به شقاً واسعاً، ولما كان ضوء النهار محتجباً بسواد الليل، كان الفجر شقّاً لذلك السواد، ولذلك يسمونه العامود، أي: العمود الذي يقطع الظلام، فيشق شقاً واسعاً؛ فلذلك سمي الفجر فجراً.
والمادة تدل على الشق الواسع في أي وضع كانت؛ ولذلك يسمي الشرع من يخرج عن أمر ربه بالفاجر، فجر أي: أحدث شقّاً واسعاً في التزامه بمنهج الله عز وجل.
إذن.. فالمسألة كلها مرجعها إلى إيجاد الشق والهوة الواسعة، ونظراً لأن الفجر يأتي ليشق ظلام الليل، سمي فجراً، والفجر هو الانتقال من آية الليل إلى أولية آية النهار، ونأخذ من هذا عدم ثبوت الحركة الحادثة.. ليل يأتي بظلامه، ثم يأتي فجر بعده فيشق ذلك الظلام، ثم تسطع الشمس بنورها، مما يدل على أن ما في الكون أحداث، والأحداث متغيرة، والحدث المتغير لابد له من مهيمن عليه يغيره، والتغيير إنما هو إلى الضد، وإلى النقيض، فلابد أن ننظر في آيات الكون كلها وما فيها من تغيرات من نقيض إلى نقيض.
ثم بعد ذلك نشعر أن كلمة: (الفجر) قد أخرجت العالم من الثبات والسكون إلى الحركة، والضوء يهدينا إلى أن نتفاعل مع ما نحركه، أو مع ما يحركنا.
فقول الحق سبحانه وتعالى: {والفجر} يقسم بآية من آيات كونه، تخرج الكون عن ظلامه الدامس، لتمد الناس بالنور والإشراق، الذي يهديهم إلى متفاعلاتهم من حركتهم في الحياة...
فالفجر جاء ليؤدي مهمة في الكون، والليل جاء أيضاً ليؤدي مهمة في الكون، وليس من صالح الكون، ولا من صالح الإنسان، أن يستمر الليل في ظلامه، ولا أن يستمر النهار في ضوئه، فكل شيء من هذه الأشياء في الكون له مهمة يؤديها، لو أخذ رتابة في لون من الألوان، لما وجد هذا اللون من الألوان الذي يؤيد كل زمن للحركة أو للسكون بها؛ ولذلك يضرب لنا الحق سبحانه وتعالى ذلك المثل في قوله عز وجل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون(71)} [القصص]، ثم يأتي بالمقابل بعد ذلك فيقول: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النّهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون(72)} [القصص].
إذن، فيجب على الإنسان أن ينظر إلى متقابلات ذلك الكون، لا على أنها تناقضات للكون، ولكن على أنها مكملات، ومعنى مكملات: أن هذا له دور، وذلك له دور، فلو تعدى شيء دوره، ما استمر أو استقام أمر الحياة.
والفجر الذي يقسم الله عز وجل به هنا، ليس مجرد ظهور الضوء الذي يمحو آية الليل، ولكنه هو الفجر المقرون بأمر نسكي، تعبدي، يبتدئ الإنسان فيه يومه باستقباله لربه، صلاةً له، وحضوراً في حضرته، واستمداداً من إمداده، بدليل أنه قال بعدها: {وليالٍ عشرٍ(2) والشّفع والوتر(3)}