( سورة الفجر مكية ، وآياتها 30 آية ، نزلت بعد سورة الليل )
وتبدأ السورة بالقسم فتقسم بالفجر ، وبالليالي العشر ، وبالشفع والوتر ، على أن الإسلام حق ، وأن البعث والحساب حق ، وقد ضربت أمثلة بمن أهلكه الله من المعاندين كعاد وثمود ، وذكرت تصورات الإنسان غير الإيمانية ، وسوء فهمه لاختبار الله له بهذه النعم ، ثم ردت على هذه التصورات ببيان الحقيقة التي تتبع منها هذه التصورات الخاطئة ، وهي الجحود والأثرة وحب المال والمتعة .
ثم وصفت مشهدا عنيفا مخيفا من مشاهد الآخرة ، وفيه يظهر جلال الله ، وتظهر الملائكة للحساب ، وتظهر جهنم أمام العصاة ، وفي الختام نداء ندي رخي للنفس المطمئنة بأن تعود إلى رضوان الله وجنته .
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة ، كما يبدو تعدد نظام الفواصل ، وتغير حروف القوافي ، بحسب تنوع المعاني والمشاهد :
فالآيات من ( 1-5 ) تنتهي بحرف الراء مثل : والفجر* وليال عشر .
والآيات من ( 6-14 ) تنتهي بحرف الدال مثل : ألم تر كيف فعل ربك بعاد .
والآيتان ( 15 ، 16 ) تنتهي بحرف النون ، والآيات الباقية متنوعة فيها الميم والتاء والهاء .
ومجموع فواصل آياتها ( هاروت ندم ) .
والقسم الأول من السورة فيه نداوة الفجر وجماله ، وفضل الليالي العشر ، وثواب الشفع والوتر من الصلاة .
والقسم الثاني ينتهي بالدال ، وفيه بيان القوة في الانتقام من الظالمين .
وقد ذكر الفيروزبادي أن معظم مقصود السورة ما يأتي :
تشريف العيد وعرفة ، وعشر المحرم ، والإشارة إلى هلاك عاد وثمود وأضرابهما ، وتفاوت حال الإنسان في النعمة ، وحرصه على جمع الدنيا والمال الكثير ، وبيان حال الأرض في القيامة ، ومجيء الملائكة ، وتأسف الإنسان يومئذ على التقصير والعصيان ، وأن مرجع العبد عند الموت إلى الرحمان والرضوان ونعيم الجنان .
1- أقسم الله سبحانه وتعالى بالفجر ، وهو الوقت الذي يدبر فيه الليل ، ويتنفس الصباح في يسر وفرح وابتسام ، وإيناس ودود نديّ ، ويستيقظ الوجود رويدا رويدا .
2- وليال عشر . قيل : هي العشر الأوائل من المحرم ، وقيل : العشر الأواخر من رمضان وفيها ليلة القدر ، ويقل : هي العشر الأوائل من ذي الحجة وفيها يوم عرفة وعيد الأضحى .
3- والشّفع والوتر . أي : الزوج والفرد من الأعداد ، والشفع والوتر من الصلاة ، أو أيام التشريق وفيها رمي الجمار بمنى ، فمن شاء رمى في يومين ومن شاء مكث ثلاثة أيام .
واليومان شفع ، والثلاثة وتر ، قال تعالى : فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه . . . ( البقرة : 202 ) .
4- والليل إذا يسر . أي : يسري فيه ، كما يقال : ليل نائم ، أي ينام فيه ، وقيل : معنى والليل إذا يسر . أي : ينصرم وينقضي مسافرا بعيدا ، ويسري راحلا ، وأصله : يسري ، فحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في الوصل ، وحذفت الياء مع الكسرة في الوقف .
5- هل في ذلك قسم لذي حجر . أي : هل فيما أقسمت به من جمال الفجر ، وجلال الأيام العشر ، وثواب الشفع والوتر ، ولطف الليل إذا يسر ، مقنع لذي لب وعقل ، وسمى العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه عن الشر ، ويحجره عما لا يليق .
6-8- ألم تعلم يا محمد ، أو ألم تعلم أيها المخاطب ، كيف فعل ربك بعاد ، وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام فكذّبوه ، ومن قبيلة عاد ( إرم ) وكانوا طوال الأجسام ، أقوياء الشكيمة ، يقطنون ما بين عمان وحضرموت واليمن ، وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد ، وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : التي لم يخلق مثلها في البلاد . في ذلك الأوان .
9- وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد . وكانت ثمود تسكن بالحجر ، في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام ، وقد قطعت الضخر وشيدته قصورا ، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات .
10- وفرعون . وهو حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام ، وهو صاحب المباني العظيمة والهياكل الضخمة ، التي تعطي شكل الأوتاد المقلوبة ، وقيل : الأوتاد تعني القوة والملك الثابت ، لأن الوتد هو ما تشد إليه الخيام لتثبيتها ، واستعمل هنا مجازا إشارة إلى بطشه وحكمه الوطيد الأركان .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ .
11-14- الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد . أي : هؤلاء الذين سلف ذكرهم ، من عاد وثمود وفرعون وجنده ، جميعا تجاوزوا الحد وكفروا بنعمة الله عليهم ، وأكثروا في البلاد الفساد وارتكاب المعاصي ، فكفروا وقتلوا وظلموا ، فأنزل الله عليهم العذاب بشدة مع توالي ضرباته .
وقد شبه الله تعالى ما يصبه عليهم من ضروب العذاب بالسوط ، من قبل أن السوط يضرب به في العقوبات ، وما وقع بهم من ألوان العذاب كان عقوبة لأنواع الظلم والفساد . إن الله سبحانه وتعالى يرى ويحسب ويحاسب ، ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ، وقد سجل الله عليهم أعمالهم كما يسجل الراصد الذي يرقب فلا يفوته شيء .
15 ، 16- إن الإنسان إذا اختبره الله سبحانه وتعالى فوسّع عليه في الرزق ، وبسط له في النعمة ، ظن غرورا أن الله راض عنه ، وتخيل أنه لن يحاسبه على ظلمه وأفعاله .
وإذا امتحنه بالفقر فضيّق عليه رزقه وقتّره ، فلم يوسع عليه ، فيقول : إن ربي أذلني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما وهبه له من سلامة الجوارح ، وما رزقه من الصحة والعافية .
وأنت ترى أن أحوال الناس إلى اليوم لا تزال كما ذكر الله في هذه الآية الكريمة ، فإن أرباب السلطة والقوة يظنون أنهم في أمن من عقاب الله ، ولا يعرفون شيئا من شرعه يمنعهم من عمل ما تسوق إليه شهواتهم ، وإنما يذكرون الله بألسنتهم ، ولا تتأثر قلوبهم بهذا الذكر .
وقريب من هذه المعاني قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسّه الشر جزوعا* وإذا مسّه الخير منوعا* إلا المصلين . ( المعارج : 19-22 ) .
( تعلم أن المخاطبين بهذه الآيات كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم ، أو أنهم كانوا يدّعون أن لهم دينا يأمرهم وينهاهم ، ويقربهم إلى الله زلفى ، فإذا سمعوا هذا التهديد وذلك الوعيد ، وسوست لهم نفوسهم بأن هذا الكلام إنما ينطبق على أناس ممن سواهم ، أما هم فلو يزالوا من الشاكرين الذاكرين غير الغافلين )i ، فالله يرد عليهم زعمهم ويقيم لهم دليلا واضحا على كذب ما تحدثهم به نفوسهم ، ويقول :
17- كلاّ بل لا تكرمون اليتيم . أي : لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان ، وفقيركم لم يطمس بصيرته الهوان ، لأحسستم باليتيم الذي فقد أباه ، فواسيتموه وعطفتم عليه حتى ينشأ كريم النفس .
18- ولا تحاضّون على طعام المسكين . وقد كان مجتمع مكة مجتمع التكالب على جمع المال بجميع الطرق ، فورثت القلوب القسوة والبخل ، وانصرفت عن رحمة اليتيم ، وعن التعاون على رحمة المسكين .
19- وتأكلون التّراث أكلا لمّا . والتراث هو الميراث الذي يتركه من يتوفى ، أي أنكم تشتدون في أكل الميراث حتى تحرموا صاحب الحق من حقه .
20- وتحبّون المال حبّا جمّا . وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا ، يصل إلى حد الشراهة .
أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، إذ لو كنتم ممن غلب عليهم حب الآخرة لانصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم ، ولكنهكم تشاركونهم فيه ، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه ، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه ، ولو كنتم ممن أرادوا الآخرة لما ضربت نفوسكم على المال ، تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام ، فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح ، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمانii .
21-24- كلاّ إذا دكّت الأرض دكّا دكّا . ودكّ الأرض تحطيم معالمها وتسويتها ، وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة .
يردعهم الله سبحانه وتعالى عن مقالتهم وفعلهم ، وينذرهم أهوال القيامة إذا دكت القيامة إذا دكت الأرض وأصبحت هباء منبثا ، وزلزلت زلزالا شديدا ، وتجلت عظمة الله ، ونزلت ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف ، بحسب منازلهم ومراتبهم ، وكشفت جهنم للناظرين ، بعد أن كانت غائبة عنهم .
قال تعالى : وبرّزت الجحيم لمن يرى . ( النازعات : 36 ) .
حينئذ تذهب الغفلة ، ويندم الإنسان على ما فرط في حياته الدنيا ، ويتذكر معاصيه ، ويتمنى أن يكون قد عمل صالحا في دنياه لينفعه في حياته الآخرة التي هي الحياة الحقيقية .
( وترى من خلال هذه الآيات مشهدا ترتجف له القلوب وتخشع لها لأبصار ، والأرض تدك دكا ، والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل ، وتقف الملائكة صفا صفا ، ثم يجاء بجهنم فتقف متأهبة هي الأخرى )iii .
وتتبع الحسرة والذكرى الأليمة من فرّط في حقوق الله ، فيتذكر بعد فوات الأوان ، ويتمنى أن يكون قد عمل الصالحات .
25 ، 26- فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد* ولا يوثق وثاقه أحد . الوثاق : الشد بالأغلال .
في هذا اليوم العصيب نرى لونا متفردا من ألوان العذاب ، لقد كان الجبارون يملكون أن يعذبوا من خالفهم في الدنيا ، لكن العذاب اليوم في الآخرة لا يملكه إلا الله ، وهو سبحانه القهار الجبار الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد ، والذي يوثق وثاقه الفذ ، ويشد المجرمين بالأغلال شدا لا يملك مثله أحد .
وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى ، وفي مشاهد كثيرة ، ولكنه يجملهما هنا ، حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم ، وكأن الآية تشير إلى ظلم عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد ، وتنبه إلى أن عذاب الطغاة ووثاقهم للناس مهما اشتد في الدنيا ، فسوف يعذب الطغاة ويوثقون عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون .
وفي وسط هذا الهول المروّع ، وهذا العذاب والوثاق الذي يتجاوز كل تصوّر ، تنادى النفس المؤمنة من الملأ الأعلى :
27-30- يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربك راضية مرضيّة* فادخلي في عبادي* وادخلي جنتي .
ينادي الله سبحانه النفس الثابتة على الحق ، أن تعود إلى جوار الله ، راضية عن سعيها ، مرضيا عنها ، فتدخل مع العباد الصالحين ، ومع الرفقة المؤمنين ، حيث يدخلون جميعا جنة الله في تكريم ورضوان .
وفي هذا النداء الرضى ما يمسح آلام هذه النفس ، وما يشعرها بالغبطة مع عباد الله ، وجنة الله ورضوانه ، فنعم الجزاء ، ونعم الثواب وحسنت مرتفقا .
تشتمل سورة الفجر على الأهداف والمقاصد الآتية :
1- القسم على أن عذاب الكافرين واقع لا محالة .
2- ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود .
3- كثرة النعم على إنسان ليست دليلا على إكرام الله له ، والبلاء ليس دليلا على إهانته وخذلانه .
4- وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال .
5- تمني الأشقياء العودة إلى الدنيا .
6- كرامة النفوس الراضية المرضية وما تلقاه من النعيم بجوار ربها .
{ والفجر 1 وليال عشر 2 والشّفع والوتر 3 والليل إذا يسر 4 هل في ذلك قسم لذي حجر 5 ألم تر كيف فعل ربك بعاد 6 إرم ذات العماد 7 التي لم يخلق مثلها في البلاد 8 وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد 9 وفرعون ذي الأوتاد 10 الذين طغوا في البلاد 11 فأكثروا فيها الفساد 12 فصبّ عليهم ربك سوط عذاب 13 إنّ ربك لبالمرصاد 14 }
والفجر : أقسم الله تعالى بوقت الفجر أو بصلاة الفجر .
1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5- والفجر* وليال عشر* والشّفع والوتر* والليل إذا يسر* هل في ذلك قسم لذي حجر .
أقسم الله تعالى بالفجر ، وهو ذلك الوقت النّديّ الذي تنتهي عنده شدة الظلام ، ويظهر الفجر الصادق ، وهو النور المعترض في الأفق .
قال تعالى : والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر*إنها لإحدى الكبر . ( المدثر : 33-35 ) .
وقيل : أقسم الله بصلاة الفجر ، وفيها تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار .
قال صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر ، اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . iv ( الإسراء : 78 ) .