وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين ، فقال : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } .
أي : يقرءونه قراءة حقه ، مصحوبة بضبط لفظه ، وتدبر معانيه ، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضي عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب ، كالجمل الواردة في نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدبره يستدعي اتباعه والعمل به .
وجملة { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } حال من الضمير ( هم ) أو من الكتاب وهذه احلال من قبيل الأحول التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها ، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه . وهي التي تسمى بالحال المقدرة أي : مقدراً وقوعها بعد وقوع عاملها .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب ، مؤمنوا أهل الكتاب . والمراد بالكتاب التوارة والإِنجيل . أو هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب : القرآن .
وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن ، فيكون الضمير في يتلونه القرآن .
وقوله : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبر عن قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } .
وفي ذكر الإشارة ووضعه في صدر الجملة المخبر بها ، زيادة تأكيد لإثبات إيمانهم .
وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونهن من بعد ما عقلوه ، فكاأن الآية التي معنا تقول : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته ، يؤمنون به إيماناً لا ريبه فيه ، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه .
ثم بين - سبحانه - عاقبة الكافرين يكتبه فقال : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } .
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وإنكار بع ما جاء فيه ، أي ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون في الآخرة ، إذ سيفونهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم ، ومقام كريم .
{ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله : الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ فقال بعضهم : هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ }هؤلاء أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدّقوا به .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدّقوا رُسُلَه ، فأقرّوا بحكم التوراة ، فعملوا بما أمر الله فيها من اتّباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ فاولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ }قال : من كفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون .
وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة لأن الاَيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأوّلهم إياه على غير تأويله ، وادّعائهم على الله الأباطيل . ولم يَجْرِ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ } موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قَصّ الله جل ثناؤه في الآية قبلها والآية بعدها ، وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل . وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد ، وهو التوراة ، فقرءوه واتبعوا ما فيه ، فصدّقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حقّ تلاوته . وإنما أدخلت الألف واللام في «الكتاب » لأنه معرفة ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أيّ الكتب عنى به .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجل : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } فقال بعضهم : معنى ذلك يتبعونه حقّ اتباعه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثني ابن أبي عديّ ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } يتبعونه حَقّ اتباعه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله .
وحدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله .
حدثني الحسن بن عمرو العنقزي ، قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفون .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال أبو مالك : إن ابن عباس قال في : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } فذكر مثله إلا أنه قال : ولا يحرّفونه عن مواضعه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا المؤمل ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا يزيد ، عن مرّة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل :
{ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قال عبد الله بن مسعود : والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ }أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ، ولا يحرّفه عن مواضعه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا الزبيري ، قال : حدثنا عباد بن العوّام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَتْلُونَهُ حَق تِلاوَتِهِ } يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاح ، عن عطاء ، بمثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثني المثنى ، قال : حدثني أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان قالوا جميعا : عن منصور ، عن أبي رزين ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : عَمَلاً به .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ألم تر إلى قوله : وَالقَمَرِ إذَا تَلاها يعني الشمس إذا تبعها القمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله : { يَتْلُونَهُ حَق تِلاَوَتِهِ } قال : يعملون به حق عمله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، قال : يتبعونه حق اتباعه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } يعملون به حقّ عمله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثني عمرو ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، يعملون به حقّ عمله .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمُتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : أحلوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وعملوا بما فيه ، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه ، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل ، ولا يحرّفه عن مواضعه .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، قال : اتباعه يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ويقرءونه كما أنزل .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، أما سمعت قول الله عز وجل : { وَالقَمَرِ إذَا تَلاهَا } ؟ قال : إذا تبعها .
وقال آخرون : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } : يقرءونه حقّ قراءته .
والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى : يتبعونه حقّ اتباعه ، من قول القائل : ما زلت أتلو أَثَره ، إذا اتبع أثره ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله . وإذا كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام : { الذين آتيناهم الكتاب } يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي ، يتبعون كتابي ( نص مضطرب ) الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ، ويقرّون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي فُرض عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللتُ لهم ، ويجتنبون ما حرّمت عليهم فيه ، ولا يحرّفونه عن مواضعه ولا يبدّلونه ولا يغيرونه كما أنزلته عليهم بتأويل ولا غيره .
أما قوله : { حَقّ تِلاَوَتِهِ } فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال : إن فلانا لعالم حَقّ عالم ، وكما يقال : إن فلانا لفاضلٌ كلّ فاضل .
وقد اختلف أهل العربية في إضافة «حقّ » إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة : غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى «أيّ » ، وبمعنى قولك : «أفضل رجل فلان » ، و«أفعل » لا يضاف إلى واحد معرفة لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة . فأحالوا أن يقال : «مررت بالرجل حقّ الرجل ، ومررت بالرجل جدّ الرجل » ، كما أحالوا «مررت بالرجل أيّ الرجل » ، وأجازوا ذلك في «كل الرجل » و«عين الرجل » و«نفس الرجل » ، وقالوا : إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صِرْن مُدوحا تُركن مدوحا على أصولهن في المعرفة . وزعموا أن قوله : يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة لأن العرب تعتدّ بالهاء إذا عادت إلى نكرة بالنكرة ، فيقولون : «مررت برجل واحد أُمّه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه » . قالوا : فكذلك قوله : حَقّ تلاوَته إنما جازت إضافة «حقّ » إلى التلاوة وهي مضافة إلى «الهاء » ، لاعتداد العرب ب«الهاء » التي في نظائرها في عداد النكرات . قالوا : ولو كان ذلك حق التلاوة لوجب أن يكون جائزا : «مررت بالرجل حقّ الرجل » ، فعلى هذا القول تأويل الكلام : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوة .
وقال بعض نحويي البصرة : جائزةٌ إضافةُ حقّ إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف وإنما ذلك نظير قول القائل : مررت بالرجل غلام الرجل ، وبرجل غلام رجل . فتأويل الآية على قول هؤلاء : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته .
وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول لأن معنى قوله : حَقّ تِلاَوَتِهِ أيّ تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها . «وأيّ » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم ، وكذلك «حقّ » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة ، وإنما أضيف في حقّ تلاوته إلى ما فيه الهاء لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها .
القول في تأويل قوله تعالى : { أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } .
قال أبو جعفر : يعني جل ثناءه بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته .
وأما قوله : { يُؤْمِنُونَ بِهِ }فإنه يعني يصدّقون به . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الهاء التي في «تلاوته » ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُم الكِتابَ } فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان محرّفا لها مبدلاً تأويلها مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه .
وإنما وصف جل ثناؤه من وصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم لأن في اتباعها اتباع محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوّته وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وإن في التكذيب بمحمد التكذيب لها . فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } قال : من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وأن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه : { ومَنْ يَكْفُرْ بِهِ فاولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ { .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَاولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه من آتاه من المؤمنين حقّ تلاوته . ويعني بقوله جل ثناؤه : { يَكْفُرْ }يجحد ما فيها من فرائض الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدّله ، فيحرّف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله واستبدلوا بها سخط الله وغضبه .
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فأولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } قال : من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، { فَأولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
{ الذين آتيناهم الكتاب } يريد به مؤمني أهل الكتاب { يتلونه حق تلاوته } بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب { أولئك يؤمنون به } بكتابهم دون المحرفين . { ومن يكفر به } بالتحريف والكفر بما يصدقه { فأولئك هم الخاسرون } حيث اشتروا الكفر بالإيمان .
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ( 121 )
وقوله تعالى : { الذين آيتناهم الكتاب } الآية ، { الذين } رفع بالابتداء ، و { آيتناهم الكتاب } صلة ، وقال قتادة : المراد ب { الذين } في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتاب } على هذا التأويل القرآن ، وقال ابن زيد : المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، و { الكتاب } على هذا التأويل التوراة ، و { آتيناهم } معناه أعطيناهم ، وقال قوم : هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة ، فأثنى الله عليهم ، ويحتمل أن يراد ب { الذين } العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب ، ويكون { الكتاب } اسم الجنس ، و { يتلونه } معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي ، وقيل { يتلونه } يقرؤونه حق قراءته ، وهذا أيضاً يتضمن الاتباع والامتثال( {[1203]} ) ، و { يتلونه } إذا أريد ب { الذين } الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون { يتلونه } في موضع الحال والخبر { أولئك } ، وإذا أريد ب { الذين } العموم لم يكن الخبر إلا { أولئك } ، و { يتلونه } حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة ، لأنه لو كان الخبر في { يتلونه } لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب { حق تلاوته }( {[1204]} ) ، و { حق } مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى أفعل ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف ، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة ، ونسيج وحده ، والضمير في { به }( {[1205]} ) عائد على { الكتاب } ، وقيل : يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أن يعود على { الهدى } الذي تقدم( {[1206]} ) ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول لآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن { هدى الله هو الهدى } الذي أعطاه وبعثه به ، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره ، والضمير في { يكفر به } يحتمل من العود ما ذكر في الأول( {[1207]} ) ، و { فأولئك هم الخاسرون } ابتداء وعماد وخبر ، أو ابتداء وابتداء وخبر ، والثاني خبره خبر الأول ، والخسران نقصان الحظ .
استئناف ناشىء عن قوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } [ البقرة : 120 ] مع قوله : { إن هدى الله هو الهدى } [ البقرة : 120 ] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى ؟ كأنَّ سائلاً سأل : كيف وهم متمسكون بشريعة ؟ ومَن الذي هو على هدى ممن اتَّبع هاتين الشريعتين ؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وَتَلْوه حقَّ تلاوته هم الذين يؤمنون به .
ويجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب ، وهو ينظر إلى قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } [ البقرة : 91 ] إلخ . وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعِبر والبيان . فقوله : { الذين آتيناهم الكتاب } فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة ، وهو من باب رَد العجز على الصدر . ولأحد هذين الوجهين فُصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب ، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله : { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } ولِما انتُقِلَ منه إليه وهو قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] وقوله : { وقال الذين لا يعلمون } [ البقرة : 118 ] . وقوله : { يتلونه حق تلاوته } حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته . وانتصب { حقَّ تلاوته } على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوةً حَقاً .
و ( الحق ) هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قِوام نوْعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة ، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو .
وقولُه : { أولئك يؤمنون به } جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول ، وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوْحَدِيَّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم . فالقصر ادعائي . فضمير { به } راجع إلى ( الكتاب ) من قوله : { الذين آتيناهم الكتاب } . وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبيء الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير { به } عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد .
ويجوز أن يعود الضمير من قوله : { يؤمنون به } إلى الهدى في قوله : { قل إن الهدى هدى الله } [ البقرة : 120 ] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله : { آتيناهم الكتاب } والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس ، أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد . ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى .
والقول في قوله : { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } كالقول في { أولئك يؤمنون به } وهو تصريح بحكم مفهوم { أولئك يؤمنون به } وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون .