وبعد هذه النداءات ، للمؤمنين ، وللكافرين وللنبى - صلى الله عليه وسلم - ضرب - سبحانه - مثلين لنساء كافرات فى بيوت أنبياء ، ولنساء مؤمنات فى بيوت كفار ، لتزداد الموعظة وضوحا ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وليشعر الجميع - ولا سيما أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - أنهم مسئولون أمام الله - تعالى - عن أعمالهم . . . فقال - تعالى - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً . . . } .
المراد بضرب المثل . إيراد حالة غريبة ، ليعرف بها حالة أخرى مشابهة لها فى الغرابة . وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب ، والمفعول الأول { امرأت نُوحٍ . . . } .
والمتدبر للقرآن الكريم ، يراه قد أكثر من ضرب الأمثال ، لأن فيها تقريبا للبعيد ، وتوضيحا للغريب وتشبيه الأمر المعقول بالأمر المحسوس ، حتى يرسخ فى الأذهان . .
أى : جعل الله - تعالى - مثلا لحال الكافرين ، وأنه لا يغنى أحد عن أحد { امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } عليهما السلام .
وعدى الفعل { ضَرَبَ } باللام ، للإشعار بأن هذا المثل إنما سيق من أجل أن يعتبر به الذين كفروا ، وأن يقلعوا عن جهالاتهم التى جعلتهم يعتقدون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة .
وقوله - تعالى - : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا . . } بيان لحال هاتين المرأتين ، ولما قامتا به من أفعال شائنة ، تتنافى مع صلتهما بهذين النبيين الكريمين . .
والمراد بالتحتية هنا : كونهما زوجين لهذين النبيين الكريمين ، وتحت عصمتهما وصيانتهما ، وأشد الناس التصاقا بهما .
وقال - سبحانه - { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ . . } للتعظيم ، أى : كانتا فى عصمة نبيين لهما من سمو المنزلة ما لهما عند الله - تعالى - .
ووصفهما - سبحانه - بالصلاح ، مع أنهما نبيان والنبوة أعظم هبة من الله لعبد من عباده - للتنويه بشأن الصالحين من الناس ، حتى يحرصوا على هذه الصفة ، ويتمسكوا بها ، فقد مدح الله - تعالى - من هذه صفاته فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وخيانة امرأة نوح له ، كانت عن طريق إفشاء أسراره ، وقولها لقومه : إنه مجنون .
وخيانة امرأة لوط له ، كانت عن طريق إرشاد قومه إلى ضيوفه . . . مع استمرار هاتين المرأتين على كفرهما .
قال الإمام ابن كثير : قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } أى : فى الإيمان ، لم يوافقا هما على الإيمان ، ولا صدقاهما فى الرسالة .
وليس المراد بقوله : { فَخَانَتَاهُمَا } فى فاحشة ، بل فى الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع فى الفاحشة .
وعن ابن عباس : قال : مازنتا ، أما امرأة نوح ، فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط ، فكانت تدل على قومها على أضيافه .
وفى رواية عنه قال : كانت خيانتهما أن امرأة نوح ، كانت تفشى سره ، فإذا آمن معه نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط ، فكانت إذا أضاف لوط أحدا ، أخبرت به أهل المدينة ممن يعلم السوء . .
وقوله - تعالى - : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } بيان لما أصابهما من سوء العاقبة بسبب خيانتهما .
أى : أن نوحا ولوطا - عليهما السلام - مع جلالة قدرهما ، لم يستطيعا أن يدفعا شيئا من العذاب عن زوجتيهما الخائنتين لهما ، وإنما قيل لهاتين المرأتين عند موتهما .
أو يوم القيامة ، ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الفجرة .
وقوله { شَيْئاً } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : { يُغْنِيَا } ، وجاء منكرا للتقليل والتحقير ، أى : فلم يغنيا عنهما شيئا من الإغناء حتى ولو كان قليلا . .
وقوله : { مَعَ الداخلين } بعد قوله : { ادخلا النار } لزيادة تبكيتها ، ولتأكيد مساواتهما فى العذاب مع غيرهما من الكافرين الخائنين الذين لا صلة لهما بالأنبياء من حيث القرابة أو ما يشبهها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : مَثّل الله مثلاً للذين كفروا من الناس وسائر الخلق امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا ، وهما نوح ولوط فخانتاهما .
ذُكر أن خيانة امرأة نوح زوجها أنها كانت كافرة ، وكانت تقول للناس : إنه مجنون . وأن خيانة إمرأة لوط ، أن لوطا كان يُسِرّ الضيف ، وتَدُلّ عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سلمان بن قيس ، عن ابن عباس ، قوله : فَخانَتاهُما قال : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون . وكانت امرأة لوط تَدُلّ على الضيف .
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قيس ، قال : سمعت ابن عباس قال في هذه الاَية : أما امرأة نوح ، فكانت تخبر أنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط ، فكانت تَدُلّ على لوط .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي عامر الهمداني ، عن الضحاك كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ قال : ما بغت امرأة نبيّ قط فَخانَتاهُما قال : في الدين خانتاهما .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً للّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوح وَامْرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ فَخانَتاهُما قال : كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما ، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، فكان ذلك من أمرها وأما امرأة لوط فكانت إذا ضاف لوطا أحد خبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء فَلَمْ يُغُنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن أبي سعيد ، أنه سمع عكرمة يقول في هذه الاَية فَخانَتاهُما قال : في الدين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ فَخانَتاهُما قال : وكانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : عبيد بن سليمان ، عن الضحاك فَخانَتاهُما قال : كانتا مخالفتين دين النبيّ صلى الله عليه وسلم كافرتين بالله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، قال : سألت سعيد بن جبير : ما كانت خيانة امرأة لوط وامرأة نوح ؟ فقال : أما امرأة لوط ، فإنها كانت تدلّ على الأضياف وأما امرأة نوح فلا علم لي بها .
وقوله : فَلَمْ يُغْنيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول : فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما من الله لما عاقبهما على خيانتهما أزواجهما شيئا ، ولم ينفعهما أن كانت أزواجهما أنبياء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوحٍ وامْرأةَ لُوط . . . الاَية ، هاتان زوجتا نَبِيّي الله لما عصتا ربهما ، لم يغن أزواجهما عنهما من الله شيئا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوحٍ وامْرأةَ لُوطٍ . . . الاَية ، قال : يقول الله : لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئا ، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون .
وقوله : وَقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ قال الله لهما يوم القيامة : ادخلا أيتها المرأتان نار جهنم مع الداخلين فيها .
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط مثل الله تعالى حالهم في أنهم يعاقبون بكفرهم ولا يحابون بما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النسبة بحالهما كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين يريد به تعظيم نوح ولوط عليهما السلام فخانتاهما بالنفاق فلم يغنيا عنهما من الله شيئا فلم يغن النبيان عنهما بحق الزواج شيئا إغناء ما وقيل أي لهما عند موتهما أو يوم القيامة ادخلا النار مع الداخلين مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام .
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين ، فقال ابن عباس وغيره : خانتا في الكفر ، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس : إنه مجنون ، وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به ، وقال ابن عباس : وما بغت زوجة نبي قط ، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا ، وقال الحسن في كتاب النقاش : خانتاهما بالكفر والزنا وغيره ، وقرأ الجمهور : «يغنيا » بالياء ، وقرأ مبشر بن عبيد : «تغنيا » بالتاء من فوق .