اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّـٰخِلِينَ} (10)

ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للصَّالحات ، من النِّساء ، فقال :{ ضَرَبَ الله مَثَلاً } إلى آخره ، تقدم الكلام على «ضرب » مع «المَثَل » ، وهل هو بمعنى «صير » أم لا ؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة «النحل »{[57263]} .

فصل في ضرب الله لهذا المثل

ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين ، وكان اسم امرأة نوح «والهة » ، وامرأة لوط «والغة » ، قاله مقاتل .

وقال الضحاكُ عن عائشة - رضي الله عنها - : إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح «وَاغِلة » وامرأة لوط «والهة » ، { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } يعني نوحاً ولوطاً{[57264]} .

ويجوز أن يكون «امْرَأة نُوحٍ » بدلاً من قوله «مثلاً » على تقدير حذف المضاف ، أي : ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح .

ويجوز أن يكونا مفعولين .

قوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ } .

جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل «ضَرْبِ المثلِ » ، ولم يأت بضميرهما ، فيقال : تحتهما أي : تحت نوح ولوط ، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة ، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات ، وهو الصَّلاح .

قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } .

قال عكرمة ، والضحاك : بالكفر{[57265]} .

وقال سليمان بن رقية ، عن ابن عباس : كانت امرأة تقول للناس : إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه{[57266]} .

وعن ابن عباس : ما بَغَت{[57267]} امرأة نبي قط ، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما{[57268]} .

قال القشيريُّ : وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين ، وكانتا مشركتين وقيل : كانتا منافقتين .

وقيل : خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك .

وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال .

قوله : { فَلَمْ يُغْنِيَا } .

العامة : بالياء من تحت ، أي : لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله .

وقرأ مبشر{[57269]} بن عبيد : تغنيا - بالتاء من فوق - ، أي : فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما .

وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة .

وجوابه : أن «عَنْ » هنا اسم كهي في قوله : [ الكامل ]

4790 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ *** . . . {[57270]}

وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة }[ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }[ القصص : 32 ] ، والجواب هناك .

فصل في معنى الآية

معنى الآية : لم يدفع نوح ، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة ، لا بالوسيلة .

وقيل : إن كفار مكة استهزءوا وقالوا : إنَّ محمداً يشفع لنا ، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار «مكة » ، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته ، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما .

{ وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم . قطع الله بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره ، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً .


[57263]:آية (75).
[57264]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/131).
[57265]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/161) عن عكرمة.
[57266]:أخرجه الطبري (12/161) والحاكم (2/497) عن سليمان عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/377) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
[57267]:في أ: خانت.
[57268]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/377) عن ابن عباس موقوفا وعزاه إلى ابن المنذر. وأخرجه الطبري (12/161) عن الضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/377) عن أشرس الخراساني مرفوعا وعزاه إلى ابن عساكر.
[57269]:ينظر: المحرر الوجيز 5/335، والبحر المحيط 8/289، والدر المصون 6/338.
[57270]:تقدم.