التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعناً في الإسلام . قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خالياً عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخاً مقيداً . وإن كان مقيداً بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيداً بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلاً وبداء ، وإن كان عالماً بلا دوامه كان تجهيلاً ، وكل هذه من الحكيم قبيح . ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله . قال القفال : لفظ { سيقول } وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ . كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية . والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزاً . ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له . ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيهاً شرعاً ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم . عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لاسيما وأنهم لا يرون النسخ . وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلاّ الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولاً كان أولى به . وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلاً فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً { ما ولاهم } ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء { عن قبلتهم التي كانوا عليها } القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في { كانوا } إلى { السفهاء } أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلاّ قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق ؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ؟ فأجابهم الله عن شبهتهم بقوله { قل لله المشرق والمغرب } أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكاً وملكاً ، ثم أكد ذلك بقوله { يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ } وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها . وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوهاً مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة . فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى الخدمة . وأيضاً الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين . وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى . وأيضاً إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] . وتوجه كل مصلٍ إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق . وأيضاً كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي . وأيضاً اليهود استقبلوا مغرب الأنوار { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص : 44 ] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دال الفلك الدوّار . وأيضاً المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها ؛ وأيضاً الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } . والوسط بالوسط أولى { الطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . وأيضاً العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين { فأينما تولوا فثم وجه الله } والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء . كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوباً فأتيت الكعبة حاجاً أو معتمراً أو توجهت مصلياً الصلوات الخمس غفرتها لك . وأيضاً لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضاً اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين . فأزيل تشويشهم ، وأيضاً الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله . فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.