غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (142)

142

التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعناً في الإسلام . قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خالياً عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخاً مقيداً . وإن كان مقيداً بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيداً بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلاً وبداء ، وإن كان عالماً بلا دوامه كان تجهيلاً ، وكل هذه من الحكيم قبيح . ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله . قال القفال : لفظ { سيقول } وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ . كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية . والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزاً . ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له . ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيهاً شرعاً ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم . عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لاسيما وأنهم لا يرون النسخ . وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلاّ الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولاً كان أولى به . وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلاً فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً { ما ولاهم } ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء { عن قبلتهم التي كانوا عليها } القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في { كانوا } إلى { السفهاء } أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلاّ قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق ؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ؟ فأجابهم الله عن شبهتهم بقوله { قل لله المشرق والمغرب } أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكاً وملكاً ، ثم أكد ذلك بقوله { يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ } وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها . وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوهاً مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة . فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى الخدمة . وأيضاً الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين . وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى . وأيضاً إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] . وتوجه كل مصلٍ إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق . وأيضاً كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي . وأيضاً اليهود استقبلوا مغرب الأنوار { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص : 44 ] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دال الفلك الدوّار . وأيضاً المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها ؛ وأيضاً الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } . والوسط بالوسط أولى { الطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . وأيضاً العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين { فأينما تولوا فثم وجه الله } والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء . كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوباً فأتيت الكعبة حاجاً أو معتمراً أو توجهت مصلياً الصلوات الخمس غفرتها لك . وأيضاً لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضاً اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين . فأزيل تشويشهم ، وأيضاً الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله . فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } .