غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

155

ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره . وصف محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع : الأولى الرسالة . الثانية النبوة . فإن قيل : النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر ؟ قلت : لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولاً ولا يكون نبياً كقوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] وقد يكون نبياً لا رسولاً ككثير من الأنبياء ، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنياً عن الآخر . ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمناً . الثالثة . كونه أمياً . قال الزجاج : معناه أنه على صفة أمة العرب . قال صلى الله عليه وآله : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وقيل : إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطأ ودراسة . وكان هذا من جملة معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه : الأول أنه كان يقرأ عليهم كتاب الله منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل . والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص ، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً بأنه طالع كتب الأوّلين ، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلم الخط لا يتفقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلاً عليه . ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين ، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين . الصفة الرابعة { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل . ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالإتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق ، ويكون المراد من قوله { والإنجيل } أنهم يجدون نعته مكتوباً عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل ، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه ، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل ، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله ، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك . الخامسة والسادسة { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله صلى الله عليه وسلم : «ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله » فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها . السابعة { ويحل لهم الطيبات } قيل : أي ما يستطاب طبعاً لأن تناول ذلك يفيد لذة . وقيل : يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل : ويحل المحللات وهو تكرار . ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات . وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعاً وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل . وقيل : يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها . الثامنة { ويحرم عليهم الخبائث } قال عطاء عن ابن عباس : الميتة والدم ونحوهما من المحرمات . وقيل : كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل . التاسعة { ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة . وكذا الأغلال التي كانت علهيم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية ، وكقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب . وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل . عن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبدة . فالأغلال على هذا القول غير مستعارة ، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة . ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله { فالذين آمنوا به } قال ابن عباس : يعني من اليهود والأولى حمله على العموم { وعزروه } وقروه وعظموه . قال في الكشاف : وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح . فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه ، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله { ونصروه } فرق كبير { واتبعوا النور الذي أنزل معه } وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب { اتبعوا } أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطلوب في الدارين ، اعلم أنه سبحانه لما قال { فسأكتبها للذين يتقون } بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان .

/خ159