غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ} (6)

1

لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل ، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال { وإن أحد من المشركين استجارك } الآية . قال علماء العربية : ارتفع { أحد } بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وإن استجارك أحد استجارك . كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر . والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ «إن » من مظان وقوع الفعل بعده . وأيضاً ذكر الفاعل هاهنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار . يقال : استجرت فلاناً أي طلب منه أن يكون جاراً لي أي محامياً وحافظاً من أن يظلمني ظالم ، ومنه يقال : أجاره الله من العذاب أي أنقذه . والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه . فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه { حتى يسمع كلام الله } سماع تدب وتأمل { ثم أبلغه } داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها ، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه ، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام ، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ، ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن . ويشبه أن يقال : المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والمذكور في الآية كونه طالباً لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالباً لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته . وفي سماع كلام الله وجوه : قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه . وقيل : سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل ، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل . واعلم أن الأمان قد يكون عاماً يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } وقد يكون خاصاً يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضاً وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ . روي عن سعيد بن جبير أن رجلاً من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : «لا » . واستدل بالآية . وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله { فاقتلوا المشركين } وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يسعى بذمتهم أدناهم » وعن أم هانئ قالت : أجرت رجلين من أحمائي فقال صلى الله عليه وسلم : «أمنا من أمنت » ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان ، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحاً كقوله : أجرتك أو لا تخف ، وكناية كقوله : أنت على ما تحب أو كن كيف شئت ، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة . روي عن عمر أنه قال : والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله لقتلته . هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له ، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار . وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي ، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال ، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك . وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثاً لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب . وأجيب بأن هذه المسموعة فعل الإنسان وليست هي التي خلقها الله تعالى أوّلاً عندكم فعلمنا أن هذا المسموع ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز البتة ، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال : إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات وهو باقٍ مع قراءة كل قارئ . وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعاً أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه .

/خ16