محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ} (227)

ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين بقوله :

{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } أي في شعرهم بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة { وَانتَصَرُوا } أي بشعرهم على عدوهم بأن هجوه { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أي فكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، جزاء وفاقا . قال الله {[5953]} : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وقال تعالى {[5954]} { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } قال ابن كثير : وقد ثبت في ( الصحيح ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان {[5955]} : ( اهجهم ، أو قال هاجهم ، وجبريل معك ) ويروي الإمام أحمد {[5956]} عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قد انزل في الشعر ما قد علمت ، وكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه . والذي نفسي بيده ! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ) .

تنبيهات :

الأول – قال في ( الإكليل ) : في قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } الآية ، ذم الشعر ، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه ، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم ، انتصارا . انتهى .

وحكى الزمخشري عن عمرو بن عبيد ، أن رجلا من العلوية قال له : إن صدري ليجيش بالشعر . فقال : فما يمنعك منه لا بأس به ؟ والقول فيه : أن الشعر باب من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .

الثاني – ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت : { والشعراء يتبعهم الغاوون } جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون . قالوا : ( قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : أنتم ) .

قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر . ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها . والله اعلم . ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع ، وعمل صالحا ، وذكر الله كثيرا ، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيء . فإن الحسنات يذهب السيئات . وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه . كما قال {[5957]} عبد الله ابن الزبعرى ، لما أسلم :

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت ، إذ أنا بور

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي *** ومن مال ميله مثبور

وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا . فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .

وقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } تهديد شديد ووعيد أكيد ، لما في { سيعلم } من تهويل متعلقه . وفي { الذين ظلموا } من إطلاقه وتعميمه . وفي { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } من إيهامه وتهويله . كأنه لا يمكن معرفته ، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .


[5953]:(4 النساء 148).
[5954]:(2 البقرة 194).
[5955]:أخرجه البخاري في: 59 – كتاب بدء الخلق، 6 – باب ذكر الملائكة، حديث رقم 1517، عن البراء. وأخرجه مسلم في: 44 كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 153 (طبعتنا).
[5956]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 456 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[5957]:انظر سيرة ابن هشام، الصفحة رقم 61 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).