محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا} (56)

{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } قال الرازي : لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما ، كمل بيان حرمته . وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين : حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله {[6225]} : { لا تدخلوا بيوت النبي } وحالة يكون في ملأ . والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى ، أما في الملأ الأعلى فهو محترم . فإن الله وملائكته يصلون عليه . وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } انتهى .

وقد روى البخاري {[6226]}عن أبي العالية قال : ( صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة . وصلاة الملائكة الدعاء ) . وقال ابن عباس : ( يصلون يبركون ) . 1ه أي يدعون له بالبركة . فيوافق قول أبي العالية ، لكنه أخص منه . وبالجملة ، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة ، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر . وقد أطنب الإمام ابن القيم في ( جلاء الأفهام ) في مبحث معنى الصلاة ، وأطال فأطاب . فلينظر .

وفي البخاري {[6227]} عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، أنه قيل : ( يا رسول الله ! أما السلام عليك فقد عرفناه . فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم ! صلي على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم ! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) .

وروى الإمام أحمد {[6228]} وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في ( مستدركه ) ، عن أبي مسعود البدري ؛ أنهم قالوا : ( يا رسول الله ! أما السلام فقد عرفناه . فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال : قولوا : اللهم ! صل على محمد وعلى آل محمد ) . وذكره . ورواه الشافعي في ( مسنده ) عن أبي هريرة بمثله .

ومن ها هنا ذهب الشافعي رحمه الله ، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير . فإن تركه لم تصح صلاته . ووافقه الإمام أحمد في رواية . وقال به إسحق بن راهويه والإمام ابن المواز المالكي وغيرهم . كما بسطه ابن القيم في ( جلاء الأفهام ) وابن كثير في ( التفسير ) وقد تقصيا ، عليهما الرحمة ، أيضا الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها . فأوسعا . فليرجع إليهما .

تنبيهات :

الأول – تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا . لأن الأصل في الأمر للوجوب . فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة . ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس . وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة . ثم هي مستحبة في كل حال . وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر . وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب . قال ابن كثير : وهذا قول غريب . فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة ، فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه . فمنه بعد النداء للصلاة ، لحديث {[6229]} ( إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ) الحديث ومنه عند دخول المسجد لحديث {[6230]} ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم . ثم قال : اللهم ! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرج صلى على محمد وسلم . ثم قال : اللهم ! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ) . ومنه الصلاة ، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها ، وتجب في الثاني . ومنه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، لقول أبي أمامة : من السنة ذلك . وهذا من الصحابي في حكم المرفوع ، على الصحيح . ومنه ختم الدعاء . فيستحب الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن آكد ذلك دعاء القنوت . ومنه يوم الجمعة وليلتها . فيستحب الإكثار منها فيهما ، ومنه في خطبة يوم الجمعة . يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها . وهو مذهب الشافعي وأحمد . ومنه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لحديث ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) تفرد به أبو داود {[6231]} وصححه النووى في ( الأذكار ) . وعن الحسن بن الحسن بن علي ؛ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تتخذوا قبري عيدا . ولا تتخذوا بيوتكم قبورا . وصلوا علي حيثما كنتم . فإن صلاتكم تبلغني ) .

قال ابن كثير : فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة ، فنهاهم . وقد روي ( أنه رأى رجلا ينتاب القبر . فقال : يا هذا ! ما أنت ورجل بالأندلس ، منه إلا سواء ) . أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين . وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه . وقد روي في حديث : ( من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ، ما دام اسمي في ذلك الكتاب ) .

قال الحافظ ابن كثير : وليس هذا الحديث بصحيح . بل عده الحافظ الذهبي موضوعا . وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، كثيرا اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة . قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا .

الثاني – الصلاة على غير الأنبياء ، إن كانت على سبيل التبعية ، كنحو : اللهم صل على محمد وآله وأزواجه ، فهذا جائز إجماعا . وأما استقلالا فجوزوه قوم لآية {[6232]} : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } وآية {[6233]} : { أولئك عليهم صلوات من ربهم } وآية {[6234]} : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } ولحديث {[6235]} ( كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم ! صل عليهم . فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال : اللهم ! صل على آل أبي أوفى ) . وكرهه قوم ، لكون صيغة الصلاة صارت شعارا للأنبياء إذا ذكروا . فلا يلحق بهم غيرهم . فلا يقال : قال عمر صلى الله عليه . كما لا يقال قال محمد عز وجل . وإن كان عزيزا جليلا . لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل . وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم .

وقال ابن حجر : إن ذلك وقع من الشارع . ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما يشاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه . ولم يثبت عنه إذن في ذلك . انتهى .

وقد يقال : كفى في المروي المأثور المتقدم إذنا .

والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب . على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر . ولا حظر هنا . فتدبر .

وأما السلام ، فقال الجويني : هو في معنى الصلاة . فلا يستعمل في الغائب . ولا يفرد به غير الأنبياء . فلا يقال : علي عليه السلام . وسواء في هذا الأحياء والأموات . وأما الحاضر فيخاطب به ، فيقال : سلام عليك ، وسلام عليكم ، أو السلام عليك أو عليكم . وقد غلب – كما قال ابن كثير – على كثير من النساخ للكتب ، أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال ( عليه السلام ) من دون سائر الصحابة .

قال : والتسوية بينهم في ذلك أولى . انتهى .

والخطب سهل . ومن رأى المروي في هذا الباب ، علم أن الأمر أوسع من أن يحرج فيه . على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف ، وفيه بحث في الأصول .

الثالث – قال النووي : إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، فليجمع بين الصلاة والتسليم . فلا يقتصر على أحدهما . فلا يقول : ( صلى الله عليه ) فقط . ولا ( عليه السلام ) فقط .

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليما . انتهى .

الرابع – قال الرازي : إذا صلى الله وملائكته عليه ، فأي حاجة إلى صلاتنا ؟ نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها . وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه . وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ، ولا حاجة له إليه . وإنما هو لإظهار تعظيمه منا ، رحمة بنا ، ليثيبنا ، عليه ، ولهذا جاء في الحديث ( من يصلي علي مرة ، صلى الله عليه بها عشرا ) . انتهى .

وكان سبق لي ، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة ( مجموعة الخطب ) في سر الصلاة عليه ، ما مثله : ويسن يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . ليذكر الرحمة ببعثه . والفضل بهدايته والمنة باقتفاء هديه وسنته والصلاح الأعظم برسالته ، والجهاد للحق بسيرته ، ومكارم الأخلاق بحكمته ، وسعادة الدارين بدعوته ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله . ما ذاق عارف سر شريعته . وأشرق ضياء الحق على بصيرته ، فسعد في دنياه وآخرته .

الخامس – قال الرازي : ذكر { تسليما } للتأكيد ليكمل السلام عليه . ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد ، لأنها كانت مؤكدة بقوله { إن الله وملائكته يصلون على النبي } انتهى .

وقيل : إنه من الاحتباك . فحذف ( عليه ) من أحدهما . و ( المصدر ) من الآخر .

قال القاضي : قيل معنى { وسلموا تسليما } أي انقادوا لأوامره . فالسلام من التسليم والانقياد .

السادس – قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام ، وأمر المؤمنين بها وبالسلام ، فقلت : يحتمل أن يكون السلام له معنيان : التحية والانقياد . فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم . والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد ، فلم يضف إليهم ، دفعا للإيهام . والعلم عند الله . انتهى .

وقال الشهاب : قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته ، نكتة سرية . وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه . فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم ، فناسب التخصيص بهم والتأكيد . انتهى .


[6225]:(33 / الأحزاب / 53).
[6226]:أخرجه البخاري في: 65 كتاب التفسير، 33 – سورة الأحزاب، 10 – باب {إن الله وملائكته يصلون على النبي}.
[6227]:أخرجه البخاري في: 65 كتاب التفسير، 33 سورة الأحزاب، 10 – باب {إن الله وملائكته يصلون على النبي}، حديث رقم 1591.
[6228]:انظر الصفحة رقم 118 من الجزء الرابع من المسند (طبعة الحلبي).
[6229]:أخرجه البخاري في: 10 – كتاب الأذان، 7 - باب ما يقول إذا سمع المنادي، حديث 390، عن أبي سعيد الخدري.
[6230]:أخرجه الترمذي في: 2 – كتاب الصلاة، 117 – باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد، حديث 314.
[6231]:أخرجه في: 11- كتاب المناسك، 96 – باب في زيارة القبور، حديث 2041.
[6232]:(33 / الأحزاب / 43).
[6233]:(2 / البقرة / 157).
[6234]:(9 / التوبة / 103).
[6235]:أخرجه البخاري في: 24 – كتاب الزكاة، 64 – باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، حديث 800، عن عبد الله بن أبي أوفى.