محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لِّيَقُولُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنۢ بَيۡنِنَآۗ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ} (53)

[ 53 ] { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 ) } .

{ وكذلك فتنا بعضهم } هم الشرفاء { ببعض } وهم المستضعفون ، بما ننا عليهم بالإيمان . وقوله : { ليقولوا } أي : الشرفاء { أهؤلاء } أي المستضعفون { من الله عليهم من بيننا } أي : بشرف الإيمان ، مع أن الشرفاء على زعمهم ، أولى بكل شرف ، فلو كان شرفا لانعكس الأمر ، فهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق ، والسبق إلى الخير ، كقولهم : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه }{[3460]} .

ثم أشار تعالى إلى أنه إنما من عليهم بنعمة الإيمان ، لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة ، فيشكرونها حق شكرها . وأما أولئك ، فلا يعرفون قدرها ، فلا يشكرونها ، بقوله سبحانه : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } ؟ فهو رد لقولهم ذلك ، وإبطال له ، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام ، معرفة شأن النعمة ، والاعتراف بحق المنعم . كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن ، والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك ، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله- ما لا يخفى .

قال الحافظ ابن كثير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس ، من الرجال والنساء ، والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل . كما قال قوم نوح لنوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي . . . } {[3461]} الآية – وكما سأل هرقل{[3462]} ملك الروم أبا سفيان- حين سأله عن تلك المسائل- : ( فأشراف الناس/ يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل ) وكان مشركوا مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } كقوله : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه }{[3463]} . وكقوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا }{[3464]} ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا }{[3465]} وقال في جوابهم هنا : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } ، أي : له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، كما قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }{[3466]} . .

وفي الحديث الصحيح{[3467]} : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالهم : .

/ وروى ابن جرير{[3468]} عن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحرث بن نوفل ، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل ، في أشراف من بين عبد مناف ، من الكفار ، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب  ! لو كان ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا- كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، وتصديقنا له . فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك ، حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلام يصيرون من قولهم  ! فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم }{[3469]} . إلى قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } . قال : وكانوا : بلال وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد . ومن الحلفاء : ابن مسعود ، والمقداد بن عمر ، ومسعود بن القارئ ، وواق بن عبد الله الحنظلي ، وعمر بن عبد عمرو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد- وأبو مرثد من غني ، حليف حمزة بن عبد المطلب- وأشباههم من الحلفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : { وكذلك فتنا بعضهم . . . } الآية – فلما نزلت أقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله عز وجل : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا . . . } {[3470]} الآية .

تنبيهات وفوائد

قال بعض المفسرين : ثمرة الآية :

1- أن الواجب في الدعاء الإخلاص به ، لأنه تعالى قال : { يريدون وجهه } - هكذا قال الحاكم- وهكذا جميع الطاعات ، لا تكون لغرض الدنيا . قال النفس الزكية عليه السلام : / إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه ، وجب عليه أن يسلم الأمر له . فإن لم يفعل ذلك فسق ، لأنه إن لم يفعل دل أنه طالب للدنيا .

2- ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء ، فلذلك خصهما بالذكر .

3- ودلت على أن الفضل بالأعمال . وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين ، كالكفاءة في النكاح ، فذلك لمخصص ، نحو قوله عليه السلام{[3471]} : " العرب بعضهم أكفاء للبعض " .

4- ودلت على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره ، وهي كقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[3472]} . وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذب ببكاء أهله ، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك .

5- ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به ، لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بذلك .

6- ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن . وقد ورد في الحديث{[3473]} عنه صلى الله عليه وسلم : " يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة " . وروي أن آخر من يدخل الجنةن الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله . وروي أن عليا عليه السلام لم يخلف شيئا بعد وفاته- هكذا في ( التهذيب ) - انتهى .

أقول : الحديث الأول ، رواه الترمذي عن أبي هريرة : حسن صحيح ، ولفظه : " يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام " . وأما حديث : آخر من يدخل الجنة من الصحابة . . . فلم أجده بهذا اللفظ .

وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف . والذي نفس محمد بيده  ! لن يدخلها إلا حبوا " .

قال السيوطي : إسناده ضعيف- كذا في ( منتخب كنز العمال ) في ترجمة عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه ، في ( فضائل الصحابة ) .

7- هذا ، وقال ابن الفرس : قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غير . قال : وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار ، ويبتهل بالدعاء ، يردد ذلك إلى الصباح ، وتأذى به الجيران ، هل يمنع ؟ واستدل ( من قال : لا يمنع ) بهذه الآية وبقوله : { ومن أظلم من منع مساجد الله }{[3474]} . الآية . انتهى .

8- قرأ ابن عامر { بالغدوة } بالواو وضم الغين ، هنا وفي سورة الكهف ، والباقون بالألف وفتح الغين . وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم .

قال أبو عبيد : قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلمي { بالغدوة } ، وقرأ العامة { بالغداة } ونراهما قرأ ذلك اتباعا للخط ، لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو ، كالصلاة والزكاة/ وليس ، في إثباتهم الواو في الكتابة ، دليل على أنها القراءة ، لأنهم قد كتبوا ( الصلاة والزكاة ) بالواو ، ولفظهما على تركهما ، فكذلك { الغداة } ، على هذا وجدنا ألفاظ العرب . انتهى .

وقال أبو علي الفارسي : الوجه قراءة العامة ( بالغداة ) ، لأنها تستعلم نكرة فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها . فأما ( غدوة ) فمعرفة ، وهو علم صيغ له ، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه ، كسائر المعارف وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم . انتهى .

قال الشهاب مجيبا ومناقشا : إن ( غدوة ) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس ، ممنوع من الصرف ، ولا تدخله الألف واللام ، ولا تصح إضافته ، فلا تقول غدوة يوم الخميس- كما قال الفراء- ولكنه سمع اسم جنس أيضا ، منكرا مصروفا ، فتدخله اللام ، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل ، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو ، فلا عبرة بقول أبي عبيدة أن من قرأ بالواو أخطأ ، وأنه اتبع رسم الخط ، لأن الغداة تكتب بالواو ، كالصلاة والزكاة ، وهو علم الجنس ، لا تدخله الألف واللام ، والمخطئ مخطئ ، لما مر . وقد ذكر المبرد عن العرب تنكيره وصرفه ، وإدخال الألف واللام عليه ، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنه علم ، لكنه نكر ، لأن تنكير علم الجنس لم يعهد . ولا أنه معرفة ، ودخلته اللام لمشاكلة العشي ، كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ، إذ قال ( اليزيد ) لمجاورة الوليد . ومنه تعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة . انتهى .

9- وفي ( القاموس ) الغدوة بالضم ، البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة والعشية : أخر النهار .

وفي ( الصحاح ) : من صلاة المغرب إلى العتمة .

وقال الأزهري : يقع العشي على ما بين الزوال والغروب .

10- جعل الزمخشري ( ذلك ) إشارة إلى الفتن المذكور ، حيث قال : ومثل ذلك/ الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض ، أي : ابتليناهم بهم . وعبر عنه بذلك ، إيذانا بتفخيمه كقولك : ضربت زيدا ذلك الضرب . ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه ، لأن المثل ليس بمراد ، إنما جيئ به مبالغة ، كما يقال ( ذلك كذلك ) كذا قرره العلامة . يعني : أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار ، لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله ، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله .

هكذا يذهب الزمان ويفنى الع *** لم فيه ويدرس الأثر

والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه ، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم . وكونه عظيما مستفاد من لفظ ( ذلك ) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور ، وليست الكاف فيه زائدة . ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه ، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي . والزمخشري ، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة ، اختاره فيما ورد فيه كذلك- كذا في ( العناية ) - .

وقال أبو السعود : ( ذلك ) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل ، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف . والتقدير : فتنا بعضهم ببعض فتونا كائنا مثل الفتون ، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، فصار نفس المصدر المؤكد ، لا نعتا له . والمعنى : ذلك الفتون الكامل فتنا .

قال الشهاب : هذا الإقحام للمبالغة ، مطرد في عرفي العرب والعجم . انتهى .

وقيل : الكاف ليست بزائدة ، والمشار إليه هو المشبه به ، الأمر المقرر في الذهن ، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي ، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله : { فتنا } ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفتن من هو – انظر ( العناية ) - .


[3460]:- [46/ الأحقاف/ 11] ونصها: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم(11)}.
[3461]:- [11/ هود/ 27] ونصها: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27)}.
[3462]:- انظر صحيح البخاري في: 1- كتاب بدء الوحي، 6- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حديث 7، عن أبي سفيان لما أرسل إليه هرقل في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه... وحديث طويل يوجه فيه هرقل إلى أبي سفيان عما يعلمه أبو سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يفت مسلما الاطلاع على هذا الحديث فإن فيه خيرا كثيرا.
[3463]:- [46/ الأحقاف/ 11] ونصها: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11)}.
[3464]:- [19/ مريم/ 73].
[3465]:- [19/ مريم/ 74].
[3466]:- [29/ العنكبوت/ 69].
[3467]:- أخرجه مسلم في: 45- كتاب البر والصلة والآداب، حديث 33 (طبعتنا) ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصابعه إلى صدره. وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 285 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) حديث رقم 7814 (طبعة المعارف).
[3468]:- الأثر رقم 13264 من التفسير.
[3469]:- [6/ الأنعام/ 51].
[3470]:- [6/ الأنعام/ 54].
[3471]:- أخرج في الجامع الصغير، عن عائشة في سنن البيهقي. ونصه: العرب للعرب أكفاء. والموالي أكفاء للموالي، إلا حائك أو حجام.
[3472]:- [6/ الأنعام/ 164 ونصها: {قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون(164)}.
[3473]:- أخرج الترمذي في: 34- كتاب الزهد، 37- باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء، بخمسمائة عام، نصف يوم" وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[3474]:- [2/ البقربة/ 114] ونصها: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم(114)}.