محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (74)

/ [ 74 ] { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير 74 } .

{ يحلفون بالله ما قالوا } أي فيك شيئا يسوءك { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } قال قتادة{[4582]} : " نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهنيّ وأنصاريّ ، فعلا الجهنيّ على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصرون أخاكم ! والله ، ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : ( سمن كلبك يأكلك ) . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية " .

وروى الأمويّ في ( مغازيه ) عن ابن إسحاق : " أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين- لما سمع ما ينزل فيهم قال : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول ، لنحن شر من الحمير ، فسمعها عمير بن سعد ، وكان في حجره ، فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم عليّ أن يصله شيء تكرهه ، ولقد قلت مقالة ، فإن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى . فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله عز وجل فيه { يحلفون بالله . . . } الآية- فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ، ونزع فأحسن النزوع " .

/ وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا ، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل ، وإن لم يمكنّا تعيين شيء منها في هذه الآية .

وقوله تعالى : { وهمّوا بما لم ينالوا } قال ابن كثير : قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه همّ بقتل عمير ابن امرأته ، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلوات الله عليه . وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي ، في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلا . قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية . قال الإمام أحمد في ( مسنده ) {[4583]} : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال : " لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ، ويسوق به عمّار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، غشوا عمارا ، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : قد قد . حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ، ورجع عمار ! فقال : يا عمار ! هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون . قال هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه . قال : فسابّ عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر رجلا . فقال : إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة ، قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " . { وما نقموا } أي ما أنكروا وما عابوا { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش ، فأثروا بالغنائم ، وقتل للجلاس ولى ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى . والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم ما همّوا به ، ولا ذنب إلا تفضله عليهم ، فهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقول ابن قيس الرقيّات{[4584]} :

ما نقم الناس من أمية إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا

وقول النابغة{[4585]} :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

ويقال : نقم من فلان الإحسان ( كعلم ) إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة . كما في ( التاج ) - ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله : { فإن يتوبوا } أي من الكفر والنفاق { يك خيرا لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا } أي بالقتل والهم والغم { والآخرة } أي النار وغيرها { وما لهم في الأرض من ولي } أي يشفع لهم في دفع العذاب { ولا نصير } أي فيدفعه بقوته .


[4582]:انظر تفسير ابن جرير الطبري، الصفحة رقم 186 من الجزء العاشر (طبعة الحلبي الثانية).
[4583]:أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 453 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[4584]:البيت من شواهد الكشاف ونصه فيه: ما نقموا من بني أمية إلا... الخ. قال شارح الشواهد: هو لابن قيس الرّقيّات. يعني أنهم جعلوا أحسن الأشياء قبيحا، وهو الحلم عند الغضب، وذلك أصل الشرف والسيادة. والبيت من قصيدة مطلعها: عاد له من كثيرة الطرب فعينه بالدموع تنسكب يمدح بها عبد الملك بن مروان (انظر: ص 40 ج 6) في: رغبة الآمل من كتاب الكامل.
[4585]:من شواهد الكشاف .قال شارحه: هو للنابغة الذبياني من قصيدته المشهورة التي أولها: كليني لهم يا أمية ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب وفلول السيف كناية عن كمال الشجاعة، فكونه من العيب محال.