تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (13)

كذلك سخّر لكم جميع ما في السموات وما في الأرض ليوفّر لكم منافعَ الحياة ، وكل هذه النعم آياتٌ تدلّ على قدرته تعالى لقومٍ يتفكّرون في صنائع الله القدير .

ناظرَ طبيبٌ نصراني من أطباء الرشيد عليّ بن الحسين الواقدي المَرْوَزِيَّ ، في مجلس الرشيد فقال له : إن في كتابكم ما يدلّ على أن عيسى بن مريم جزءٌ من الله تعالى ، وتلا قوله : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] .

فقرأ الواقدي قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } ثم قال : إذنْ يلزم أن تكونَ جميع تلك الأشياء جزءاً من الله ! فانقطع الطبيب وأسلم . وفرح الرشيد بذلك فرحاً شديدا ، ووصَل الواقديَّ بصلةٍ فاخرة .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (13)

{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض } أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية ، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر { جَمِيعاً } حال من { مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض } أو توكيد له وقوله تعالى : { مِنْهُ } حال من ذلك أيضاً ، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعاً كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه .

وجوز فيه أوجه أخر . الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل «جميعا » حينئذ حال من المضير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعاً منه تعالى وقيل : جميعاً على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعاً ، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيداً لقوله تعالى : { سَخَّرَ } أي أنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك ، الثاني أن يجعل { ما في السموات } مبتدأ ويكون هو خبره و { جَمِيعاً } حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة ويكون { وَسَخَّرَ لَكُمُ } تأكيداً للأول أي سخر وسخر ، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيماناً بكمال التسخير والمنة عليه ، وجملة { مَا فِي السموات } الخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة .

واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود ، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم ، وقال الرضى : يكون بالفاء أيضاً وهو ههنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وان لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقاً لشدة الاتصال ، واعترض أيضاً بأن فيه حذف مفعول { سَخَّرَ } من غير قرينة وهذا كما ترى ، الثالث أن يكون { مَّا فِى الارض } مبتدأ و { مِنْهُ } خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق .

وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية ، ولعله ان صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها ، فقد أخرج ابن جرير عه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى .

وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حيمد . وابن المنذر . والحاكم وصححه . والبيهقي في الأسماء والصفات عن طوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممن خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأل فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فاتي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا الارجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم .

واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولاً أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلاً لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه اه ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم ، وقال الشيخ إبراهيم الكوارني من الصوفية : إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمرو عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جل وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض فأراد ابن عباس أن الأشياء جميعا منه تعالى أي من نوره سبحانه المضاف الذي هو العماء والوجود المفاض منه تعالى بآيجاده جل شأنه ، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور ، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى : { الله خالق كُلّ شَىْء } [ الرعد : 16 ] لكن السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله : ما كان ليأتي بهذا الخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى : { الله خالق كُلّ شَىْء } فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو .

وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اه ، وعليه عامة أهل الوحدة { أُرْسِلَ الاولون } بأن مراد ابن عباس قطع التسليل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير . وابن عمرو ، ولا يعكر على هذا قوله تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء } [ الطور : 35 ] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن ساء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك ، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية رداً على بعض النصارى في زعمه ان قوله تعالى في عيسى عليه السلام : { وروحٌ منه } [ النساء : 171 ] يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون .

وحكى أبو الفتح . وصاحب اللوامح عن ابن عباس . وعبد الله بن عمرو . والجحدري . وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منة » بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم ، وحكاها عن ابن عباس أيضاً ابن خالويه . ولكن قال أبو حاتم : إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس : إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها .

وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة ، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل «سخر » على الإسناد المجازي كما تقول : كرم الملك أنعشني أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى ، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى ، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثاً حقيقياً مع وجود الفاصل ، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر { لآيات } عظيمة الشأن كثيرة العدد { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر .

من باب الإشارة :

هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض جَمِيعاً مّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] من جعله إشارة إلى وحدة الوجود ، وقد مر ما يغني عن نقله ، والله عز وجل ولي التوفيق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (13)

{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من فضله وإحسانه ، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته ، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه ، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه ، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات دليل على أنه الفعال لما يريد ، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته ، وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره ، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له ، وأن رسله صادقون فيما جاءوا به ، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريبا ولا شكا .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (13)

قوله : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } يمن الله على عباده بما ذلّله لهم من السماوات من مخلوقات كالشمس والقمر والنجوم والأمطار والرياح . وكذلك سخر لكم ما في الأرض من البحار والأنهار والهواء والفضاء والزروع والثمرات ، وما حوته في باطنها من معادن ومذخورات { جميعا منه } واقعة في موقع الحال . والمعنى : أن الله سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة بفعله وحكمته فهو مكونها وموجدها بقدرته ثم مسخرها لخلقه . وقيل : { جميعا منه } في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هي جميعا منه . وقيل : تأكيد لما في السماوات وما في الأرض .

قوله : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } يعني فيما سخره الله لكم مما بيّنه في هاتين الآيتين من مختلف الخلائق والأشياء والأجرام ، لهي دلالات وعلامات تكشف عن عظيم قدرة الله وأنه هو الخالق الصانع الحكيم دون غيره من الأرباب والأنداد .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (13)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}، يعني من الله، {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} في صنع الله فيوحدونه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وَسَخّرَ لَكُمْ ما في السّمَوَاتِ من شمس وقمر ونجوم وَما فِي الأرْضِ من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم جَمِيعا منه. يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم، نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضل منه تفضّل به عليكم، فإياه فاحمدوا لا غيره، لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك، بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه، ومن نعمه فلا تجعلوا له في شكركم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة، وأخلصوا له الألوهة، فإنه لا إله لكم سواه... وقوله:"إنّ فِي ذلكَ لآياتٍ لِقَوْم يَتَفَكّرُونَ"، يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله لكم ما أنبأكم أيها الناس أنه سخره لكم في هاتين الآيتين لآياتٍ يقول: لعلامات ودلالات على أنه لا إله لكم غيره، الذي أنعم عليكم هذه النعم، وسخر لكم هذه الأشياء التي لا يقدر على تسخيرها غيره لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته، فيعتبرون بها ويتعظون إذا تدبروها، وفكّروا فيها.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض) أي: ذلل، ومعنى التسخير والتذليل خلقها على وجه ينتفع بها العباد، والانتفاع من السماء والأرض معلوم...

(إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) أي: يتدبرون.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السموات والأرض في مقارها وأحيازها لما حصل الانتفاع؛ لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها، وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع، وكل ذلك قد بيناه {منه} في قوله {جميعا منه}: معناه أنها واقعة موقع الحال، والمعنى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه،

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر آية البحر لعظمتها، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله، على عظمه إلا لنا، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى: {وسخر لكم} أي خاصة ولو شاء لمنعه.

{ما في السماوات} بإنزاله إليكم منبهاً على أنها بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه وأكد بإعادة الموصول؛ لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم، وأفعالهم أفعال من ينكره فقال: {وما في الأرض} وأوصلكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله: {جميعاً} حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها {منه} لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك، قال الرازي في اللوامع: قال أبو يعقوب النهر جوري: سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه.

ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني، حسن جداً قوله، مؤكداً لأن عملهم يخالفه: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون.

{لآيات} أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا.

{لقوم} أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم.

{يتفكرون} أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

كل شيء في هذا الوجود منه وإليه؛ وهو منشئه ومدبره؛ وهو مسخره أو مسلطه. وهذا المخلوق الصغير.. الإنسان.. مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية. يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس! وكل ذلك من فضل الله عليه. وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).. والفكر لا يكون صحيحاً وعميقاً وشاملاً، إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها، إلى مصدر هذه القوى والطاقات؛ وإلى النواميس التي تحكمها؛ وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان. هذه الصلة التي تيسر للإنسان الاتصال بها وإدراكها. ولولاها ما اتصل ولا أدرك. ولا عرف ولا تمكن، ولا سخر ولا انتفع بشيء من هذه القوى والطاقات...