يقدّر الليل والنهار : يقدر طول الليل والنهار وقصَرهما ويعلم مقاديرهما وأجزاءهما وساعاتهما .
فتاب عليكم : فخفّفَ عنكم بأن تصلّوا ما تستطيعون وما تطيقون .
فاقرأوا ما تيسّر من القرآن : فصلّوا ما يمكنكم وما يتيسر لكم من صلاة الليل .
ثم تُختم السورةُ بهذه الآية الطويلة وفيها تخفيفٌ ورحمةٌ للمؤمنين . ويقول معظم المفسّرين إن هذه الآية نزلت بعدَ عامٍ من نزول سورة المزمل .
إن ربك يا محمد ، يعلمُ أنك تقوم أقل من ثلث الليل أحيانا ، وتقوم نصفه وثلثه في بعض الأحيان ، وأن طائفة من أصحابك كذلك تقوم من الليل كما تقوم أنت ، والله يقدّر طول الليل والنهار ، وهو يعلم أنكم لا تستطيعون إحصاء أجزاء الليل والنهار ( لأنه لم يكن عندهم ساعات يضبطون فيها الأوقات ) . فخفف الله عليكم للأعذار التي تحيط بكم من مرض أو سفر أو جهاد للعدو ، ولذلك صلّوا
ما تستطيعون من صلاة الليل ، وواظبوا على الصلاة وأداء الزكاة . وتصدقوا في سبيل الخير ، على الفقراء والمساكين والأعمال العامة .
{ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } .
أي شيء تفعلوه من وجوهِ البرّ والخير والإحسان تلقَوا ثوابَهُ عندَ الله بأضعاف ما قدّمتموه . . . . فاستغفِروا الله من فعلِ السيّئات والتقصيرِ في الحسناتِ ، إن الله غفور رحيم دائماً وأبدا .
وقوله تعالى : { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } دليلٌ من دلائل النبوة ، لأن الآية مكية ، والجهادُ لم يُفرض إلا بعدَ الهجرة .
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو : ونصفه وثلثه بالجر ، والباقون : ونصفه وثلثه بالنصب . والحمد لله أولا وآخرا .
الأولى- قوله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم " هذه الآية تفسير لقوله تعالى : " قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه " [ المزمل : 4 ] كما تقدم ، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم . " تقوم " معناه تصلي و " أدنى " أي أقل . وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام " ثلثي " بإسكان اللام . " ونصفه وثلثه " بالخفض قراءة العامة عطفا على " ثلثي " ؛ المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، كقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه " فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه . وقرأ ابن كثير والكوفيون " ونصفه وثلثه " بالنصب عطفا على " أدنى " التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه . قال الفراء : وهو أشبه بالصواب ؛ لأنه قال أقل من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة . القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف ؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه . ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى الثلث . ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم . وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع . وهذا القول تحكم .
الثانية- قوله تعالى : " والله يقدر الليل والنهار " أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ . " علم أن لن تحصوه " أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به . وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل . والأول أصح ، فإن قيام الليل ما فرض كله قط . قال مقاتل{[15531]} وغيره : لما نزلت : " قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه " [ المزمل : 4 ] شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم ، وانتُقِعَتْ ألوانهم ، فرحمهم الله وخفف عنهم ، فقال تعالى : " علم أن لن تحصوه " و " أن " مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنكم لن تحصوه ؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شق ذلك عليكم .
الثالثة- قوله تعالى : " فتاب عليكم " أي فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به . وقيل : أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم . وأصل التوبة الرجوع كما تقدم ، فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر . وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري ، فخفف عنهم ذلك التحري . وقيل : معنى " والله يقدر الليل والنهار " يخلقهما مقدرين ؛ كقوله تعالى : " وخلق كل شيء فقدره تقديرا " [ الفرقان : 2 ] . ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم ، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف .
الرابعة- قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " فيه قولان : أحدهما أن المراد نفس القراءة ، أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم . قال السدي : مائة آية . الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن . وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين . وقال سعيد : خمسون آية .
قلت : قول كعب أصح ؛ لقول عليه السلام : ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين{[15532]} ) خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو . وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب{[15533]} والحمد لله . القول الثاني : " فاقرؤوا ما تيسر منه " أي فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآنا ، كقوله تعالى : " وقرآن الفجر " أي صلاة الفجر . ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول . قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز ، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله .
الخامسة- قال بعض العلماء : قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف والزيادة عليه . ثم احتمل قول الله عز وجل : " فاقرؤوا ما تيسر منه " معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا ؛ لأنه أزيل به فرض غيره . والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره ؛ وذلك لقوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " [ الإسراء : 79 ] فاحتمل قوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه . قال الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس .
السادسة- قال القشيري أبو نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ، كقوله تعالى : " فما استيسر من الهدي " [ البقرة : 196 ] فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بد من صلاة الليل ، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسن . وقال قوم : نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ، وهو مذهب الشافعي . ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته . وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك ، وصلوا إن شئتم . وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه . وقوله : " نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] محمول على حقيقة النفل . ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة ، كقوله تعالى : " أقم الصلاة لدلوك الشمس " [ الإسراء : 78 ] ، وقوله : " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " [ الروم : 17 ] ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع . وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة ، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : " يا أيها المزمل . قم الليل " [ المزمل : 1 ] كانت عامة له ولغيره . وقد قيل : إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة ، ونسخت بالمدينة ؛ لقوله تعالى : " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله " ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] . وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم " وجوب صلاة الليل .
السابعة- قوله تعالى : " علم أن سيكون منكم مرضى " الآية ، بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليهم قيام الليل ، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء . و " أن " في " أن سيكون " مخففة من الثقيلة ، أي علم أنه سيكون .
الثامنة- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله . وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله " وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء . وقرأ " وآخرون يضربون في الأرض " الآية . وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي ، أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض . وقال طاوس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله . وعن بعض السلف أنه كان بواسط ، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة ، وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة ، ولا تؤخره إلى غد ، فوافق سعة في السعر ، فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه ، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله ، فكتب إلى صاحبه بذلك ، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا ! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا ، وقد جنيت علينا جناية ، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة ، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي . ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد ، فافتقده ابن عمر ، فمشى إلى بيته ، فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه ، فلقيه فقال له : يا بني ! ما لك وللطعام ؟ فهلا إبلا ، فهلا بقرا ، فهلا غنما ! إن صاحب الطعام يحب المحل ، وصاحب الماشية يحب الغيث .
التاسعة- قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " أي صلوا ما أمكن ، فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم . قال ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية ، قاله البخاري وغيره ، وعقد بابا ذكر فيه حديث ( يعقد الشيطان على قافية{[15534]} رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد . فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال : ( أما الذي يثلغ{[15535]} رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه{[15536]} ، وينام عن الصلاة المكتوبة ) . وحديث عبد الله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال : ( ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ) فقال ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة ، فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له ، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل . وفي الصحيح واللفظ للبخاري : قال عبد الله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم ، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاما شابا عزبا ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار . قال : ولقينا ملك آخر ، فقال لي : لم ترع{[15537]} . فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ، فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع . والله أعلم .
العاشرة- إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله : " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " ، " فاقرؤوا ما تيسر منه " محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة ، فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة ، من أي القرآن كانت . وعنه ثلاث آيات ؛ لأنها أقل سورة . ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي . والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي ، على ما بيناه في سورة " الفاتحة " {[15538]} أول الكتاب والحمد لله . وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ، قال الماوردي : فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب ، أو على الاستحباب دون الوجوب . وهذا قول الأكثرين ؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه . الثاني أنه محمول على الوجوب ؛ ليقف بقراءته على إعجازه ، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة . وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال : أحدها جميع القرآن ؛ لأن الله تعالى يسره على عباده ، قاله الضحاك . الثاني ثلث القرآن ، حكاه جويبر . الثالث مائتا آية ، قاله السدي . الرابع مائة آية ، قاله ابن عباس . الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة ، قاله أبو خالد الكناني .
الحادية عشرة- قوله تعالى : " وأقيموا الصلاة " يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها . " وآتوا الزكاة " الواجبة في أموالكم ، قاله عكرمة وقتادة . وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك . وقيل : صدقة التطوع . وقيل : كل أفعال الخير .
وقال ابن عباس : طاعة الله والإخلاص له .
الثانية عشرة- قوله تعالى : " وأقرضوا الله قرضا حسنا " القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب . وقد مضى في سورة " الحديد " {[15539]} بيانه . وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل . وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله .
الثالثة عشرة- قوله{[15540]} تعالى : " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه . فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر : لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول : " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا " أي مما تركتم وخلفتم ، ومن الشح والتقصير . " وأعظم أجرا " قال أبو هريرة : الجنة ، ويحتمل أن يكون أعظم أجرا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا . ونصب " خيرا وأعظم " على المفعول الثاني " لتجدوه " و " هو " : فضل عند البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له من الإعراب . و " أجرا " تمييز . " واستغفروا الله " أي سلوه المغفرة لذنوبكم " إن الله غفور " لما كان قبل التوبة " رحيم " لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير . ختمت السورة{[15541]} .
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام الليل ومعناها : أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا مرة يكثر ومرة يقل ، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرؤوا ما تيسر من القرآن .
{ ونصفه وثلثه } من قرأها بالخفض فهو عطف على ثلثي الليل أي : تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وثلثه ومن قرأ بالنصب فهو عطف على أدنى أي : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة .
{ وطائفة } يعني : المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في تقوم .
{ علم أن لن تحصوه } الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي : لن تحصوا تقدير الليل ، وقيل : معناه لن تطيقوه أي : لن تطيقوا قيام الليل كله .
{ فتاب عليكم } عبارة عن التخفيف كقوله فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم .
{ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } أي : إذا لم تقدروا على قيام الليل كله فقوموا بعضه واقرؤوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن ، وهذا الأمر للندب ، وقال ابن عطية : هو للإباحة عند الجمهور وقال قوم : منهم الحسن وابن سيرين هو فرض لا بد منه ولو أقل ما يمكن حتى قال بعضهم : من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر ، وقيل : كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وقال بعضهم : هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم .
{ علم أن سيكون منكم مرضى } ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله ومنها الجهاد ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر تأكيدا للأمر به أو تأكيدا للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار .
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني : المكتوبتين .
{ وأقرضوا الله } معناه : تصدقوا ، وقد ذكر في البقرة .
{ هو خيرا } نصب خيرا لأنه مفعول ثان لتجدوه والضمير فصل .
{ واستغفروا الله } قال بعض العلماء : " إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا " .
ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه ، وربما شق على غيره ، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب ، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة ، لأن منفعتها التزود{[69579]} من كل خير لما أدناه{[69580]} هول المقابر ، فإن الروح في غاية اللطافة ، والجسد في غاية الكثافة ، لأنها من عالم الأمر ، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام ، وذلك بصرف {[69581]}القلب كله{[69582]} عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات ، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي{[69583]} ، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة ، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال ، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة { إن ربك } أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك { يعلم أنك تقوم } أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة .
ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك ، استعار للأقل قوله-{[69584]} : { أدنى } أي{[69585]} زماناً أقل ، والأدنى{[69586]} مشترك بين الأقرب ، والأدون للأنزل{[69587]} رتبة لأن كلاًّ منهما{[69588]} يلزم منه قلة المسافة { من ثلثي الّيل } في بعض الليالي { ونصفه وثلثه } أي{[69589]} وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة ، والمعنى ، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى{[69590]} من الثلثين ، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع .
ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم ، أتبعه قيام أتباعه ، فقال عاطفاً على الضمير المستكن{[69591]} في تقوم وحسنه الفصل : { وطائفة } أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم{[69592]} عليك{[69593]} وإقبال بعضهم على بعض . ولما {[69594]}كانت العادة أن{[69595]} الصاحب ربما أطلق على-{[69596]} من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله : { من الذين معك } أي بأقوالهم وأفعالهم ، أي على الإسلام{[69597]} ، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا{[69598]} القيام{[69599]} فلم يرد{[69600]} أن يسميهم مسلمين ، والمعية أعم .
ولما كان القيام -{[69601]} على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في{[69602]} العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى : { والله } أي تقومون هكذا لعدم{[69603]} علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { يقدر } أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير { الّيل والنهار } فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما{[69604]} ولا يوجد شيء منهما إلا به
( ألا يعلم من خلق }{[69605]}[ الملك : 14 ] .
ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علماً وعملاً ، ترجم ذلك بقوله : { علم } أي الله سبحانه { أن لن تحصوه } أي تطيقوا التقدير علماً وعملاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " استقيموا ولن تحصوا " { فتاب } أي فتسبب عن هذا العلم أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب { عليكم } بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة ، أي رفع التبعة{[69606]} عنكم في ترك القيام على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن التائب ، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية .
ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبراً عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب : { فاقرءوا } أي في الصلاة أو غيرها في الليل والنهار { ما تيسر } أي سهل وهان إلى الغاية عليكم ولان وانقاد لكم { من القرآن } أي الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم ، قال القشيري : يقال : من خمس آيات إلى ما زاد ، ويقال : من عشر آيات إلى ما يزيد{[69607]} ، قال البغوي{[69608]} : قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة ، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية . وقيل : إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها-{[69609]} مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف ، ولذلك روى أبو داود{[69610]} وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام {[69611]}بعشر آيات{[69612]} لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين{[69613]} " قال المنذري : من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية .
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه ، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ فقال : { علم أن } أي أنه { سيكون }{[69614]} يعني بتقدير لا بد لكم{[69615]} منه { منكم مرضى } جمع مريض ، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، ففي هذا بشارة بأن أهل الإسلام يكثرون جداً .
ولما ذكر عذر المريض وبدأ به لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه ، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم ، فقال مبشراً مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم : { وآخرون } أي-{[69616]} غير المرضى { يضربون } أي يوقعون الضرب { في الأرض } أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب{[69617]} الأرض برجله ، ثم استأنف بيان علة الضرب بقوله : { يبتغون } أي يطلبون طلباً شديداً ، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال : { من فضل الله } أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة {[69618]}به إليه{[69619]} بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم { وآخرون } أي منكم أيها المسلمون { يقاتلون } أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله ، ولذلك بينه بقوله : { في سبيل الله } أي ذلك القتل مظروف لطريق{[69620]} الملك الأعظم ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي ، وأظهر ولم يضمر تعظيماً للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر ، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم ، فمن لا يرحم لا يرحم ، قال البغوي{[69621]} : روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون } [ المزمل : 20 ] الآية .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه-{[69622]} قال : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله .
ولما كانت هذه أعذاراً أخرى مقتضية للترخيص أو أسباباً لعدم الإحصاء ، رتب عليها الحكم السابق ، فقال مؤكداً للقراءة بياناً لمزيد عظمتها : { فاقرءوا } أي كل واحد منكم { ما تيسر } أي لكم { منه } أي القرآن ، أضمره{[69623]} إعلاماً بأنه عين السابق ، فصار الواجب قيام شيء من الليل على وجه التيسير ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس . ولما كان صالحاً لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها وأن يراد به-{[69624]} نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف ، قال ترجيحاً لإرادة هذا الثاني أو تنصيصاً على إرادة الأول : { وأقيموا } أي أوجدوا إقامة { الصلاة } المكتوبة بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتمماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها .
ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد{[69625]} عمودي الإسلام البدني والمالي ، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال : { وآتوا } من طيب أموالكم التي أنعمنا بها عليكم { الزكاة } أي المفروضة ، ولما كان المراد الواجب المعروف ، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة ، فقال : { وأقرضوا الله } أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها{[69626]} الغنى المطلق ، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم { قرضاً حسناً } من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله ، فإنه محفوظ لكم عنده{[69627]} مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفاً{[69628]} أحوج ما تكونون إليه .
ولما كان هذا الدين جامعاً ، وكان هذا القرآن حكيماً لأن منزله{[69629]} له صفات الكمال{[69630]} فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماماً بها{[69631]} ، أتبع ذلك أمراً عاماً بجميع شرائع الدين فقال : { وما تقدموا } وحث على إخلاص النية بقوله : { لأنفسكم } أي خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال { من خير } أي أيّ{[69632]} خير كان من عبادات {[69633]}البدن والمال{[69634]} { تجدوه } محفوظاً لكم { عند الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { هو } أي{[69635]} لا غيره{[69636]} { خيراً } أي لكم ، وجاز وقوع الفصل بين غير معرفتين لأن " أفعل{[69637]} من " كالمعرفة ، ولذلك يمنع دخول أداة التعريف{[69638]} عليها .
ولما كان كل-{[69639]} من عمل خيراً جوزي عليه سواء كان عند الموت {[69640]}أو في{[69641]} الحياة سواء كان كافراً أو مسلماً{[69642]} مخلصاً أو لا ، إن كان مخلصاً كان جزاؤه في الآخرة ، وإلا ففي الدنيا ، قال-{[69643]} : { وأعظم أجراً } أي مما لمن أوصى في مرض الموت ، وكان-{[69644]} بحيث يجازى به-{[69645]} في الدنيا .
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا{[69646]} كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب ، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره ، فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثاً على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيراً إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر : { واستغفروا الله } أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف-{[69647]} بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه .
ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ في العظمة إلى حد يؤيس من إجابته ، علل الأمر بقوله مؤكداً تقريباً لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة{[69648]} انتقامه وقوة بطشه : { إن الله } وأظهر إعلاماً بأن{[69649]} صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين { غفور } أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عليها عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً ،
وقد اشتملت هذه السورة على شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي من جوامع الكلم " اللهم-{[1]} أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح في دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من {[2]}كل شر{[3]} " كما أشير إلى كل جملة منها في محلها ، ولقد رجع آخر السورة - بالترغيب في العمل وذكر جزائه - على أولها الأمر بالقيام بين يديه وبإشارة{[4]} الاستغفار إلى عظم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام ، فسبحان من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لإحاطته بالجلال والإكرام ، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة{[5]} .