شَطْأه : شطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر .
آزره : أعانه وقوّاه . وهو من المؤازرة وهي المعاونة .
على سوقه : على قصبه وأصوله ، والسوق جمع ساق .
فوصفهم بأوصافٍ كلها مدائح لهم ، وذكرى لمن بعدهم . بتلك الأوصاف سادوا الأمم ، وامتلكوا الدول ، ونشروا الإسلام ، وقبضوا على ناصية العالم . وهذه الصفات هي :
1- أنهم أشدّاء على من خالف دينهم وبادأهم العداء ، وهم متراحمون متعاطفون فيما بينهم .
2- أنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله طريقتهم في أكثر أوقاتهم ، لذلك تُبِصرهم راكعين خاشعين كثيرا .
3- وأنهم بذلك يطلبون ثوابا عظيما من الله تعالى ورضوانا منه .
4- ذلك وصفهم البارز في التوراة .
5- وفي الإنجيل ضرب بصفتهم المثل فقال : سيخرج قوم ينبُتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
ذلك أنهم في بدء الإسلام كانوا قليلي العدد ثم كثروا وارتقى أمرهم يوما بعد يوم حتى أعجب الناسُ بهم ، كصفة زرع أخرج أول ما ينشقّ عنه ، فآزره فتحوّل من الدِقة إلى الغِلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجِب الزراعَ بقوّته واكتماله . وكذلك كان حال المؤمنين لِيَغيظَ الله بهم وبقوّتهم الكفار .
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
وقد وفى سبحانه وتعالى بوعده ونصر رسوله وجُندَه ، وهزم الأحزابَ وحده .
بهذه الأوصاف الجليلة يختم هذه السورة العظيمة ، وهذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها ، يوم كان المسلمون مستمسكين بالعروة الوثقى ، سائرين على هُدى دينهم بحق وإخلاص . فانظر الآن وتأمل في حال المسلمين : يحيط بهم الذل والخوف من شرذمة من اليهود تجمعت في فلسطين ، اغتصبت ديار الإسلام ، وهي تضرب العرب في لبنان صباح مساء وتبيد الناس إبادة ، وتهدم ما يصنع العرب من أدوات للتقدم حتى وصلت إلى ضرب المفاعل الذري في بغداد ، ويصرخ زعماؤها بتبجح اليهود المعروف أنها لن تسمح للعرب أن يقيموا أية آلة تجعلهم يتقدمون صناعياً وعلميا . كل هذا وحكام العرب خائفون ساكتون كأن شيئا لم يحدث ، وزعماؤهم يتباكون ويطلبون من أمريكا عدوّ العرب الأول أن تحلّ لهم قضيتهم ! يا للذل والعار ! كيف نستطيع أن نواجه ربنا غداً يوم نلقاه !
ما هي العلة التي نتعلل بها لرسولنا الكريم ! لعل الله أن يبدل الحالَ غير الحال ، ويخضّر الزرعُ بعد ذبوله ، وتعود الأمة إلى سيرتها الأولى ، متمسكة بدينها الحنيف ، مجتمعة الكلمة ، موحدة الهدف . واللهَ أسأل أن يلهمنا الصواب والرشد والرجوع إلى ديننا الحنيف . وعند ذلك ينطبق علينا قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } والحمد لله رب العالمين .
{ 29 } { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال ، وأنهم { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } أي : جادون ومجتهدون في عداوتهم ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة ، فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون ، { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } أي : متحابون متراحمون متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق ، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها الركوع والسجود .
{ يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه .
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } أي : قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم ، حتى استنارت ، لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت [ بالجلال ] ظواهرهم .
{ ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } أي : هذا وصفهم الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا .
وأما مثلهم في الإنجيل ، فإنهم موصوفون بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي : أخرج فراخه ، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء .
{ فَاسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي : قوي وغلظ { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساق ، { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله ، كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ، وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ ، ولهذا قال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم ، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال ، ومعامع القتال .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .
ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وتكلم على معانيها وأسرارها ، قال -رحمه الله تعالى : -
قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم .
وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان . قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة على الصواب .
وفي الصحيحين عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، هكذا في الصحيحين عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة ، وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة ، قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : وقد صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم .
والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة ، وعذره{[790]} أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة .
فلما كانوا بذي الحليفة ، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش .
وسار النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش .
فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها ، وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام "
وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك .
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به ، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة .
فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه ، وقال : " هذه عن عثمان " ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقيم بالحديبية ، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا .
وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم .
فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " قال بديل : سأبلغهم ما تقول .
فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي : منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها ، وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك .
وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي : غدر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء "
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه .
وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له .
فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .
فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته .
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت .
فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم "
ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب .
فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته علينا .
فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه .
فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا .
قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به "
قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .
فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة .
وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟
فأنزل الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ }
وهذا آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة
[ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، نقلته من خط المفسر رحمه الله وعفا عنه ، وكان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة 1345 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين .
بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد الله البسام . غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ]{[1]}
المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان من به الله على عبده وابن عبده وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي .
قوله تعالى : { محمد رسول الله } تم الكلام ها هنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئاً : { والذين معه } قالوا وفيه " واو " فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ، { أشداء على الكفار } غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ، { رحماء بينهم } متعاطفون متوادون بعضهم لبعض ، كالولد مع الوالد ، { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( المائدة-54 ) { تراهم ركعاً سجداً } أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ، { يبتغون فضلاً من الله } أن يدخلهم الجنة ، { ورضواناً } أن يرضى عنهم ، { سيماهم } أي : علامتهم ، { في وجوههم من أثر السجود } اختلفوا في هذا السيما : فقال قوم : هم نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به . وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه . قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس . { ذلك } الذي ذكر ، { مثلهم } صفتهم { في التوراة } ها هنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : { ومثلهم } صفتهم ، { في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } قرأ ابن كثير ، وابن عامر : شطأه بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد فراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا فرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى . قوله : { فآزره } قرأ ابن عامر : فأزره بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ، { فاستغلظ } ذلك الزرع ، { فاستوى } أي : تم وتلاحق نباته وقام ، { على سوقه } أصوله ، { يعجب الزراع } أعجب ذلك زراعه . هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون . قال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقيل : الزرع محمد الشطء : أصحابه والمؤمنون . وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : { محمد رسول الله والذين معه } : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { أشداء على الكفار } عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، رحماء بينهم عثمان رضي الله عنه ، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يبتغون فضلاً من الله بقية العشرة المبشرين بالجنة . وقيل : { كمثل زرع } محمد ، { أخرج شطأه } أبو بكر { فآزره } عمر { فاستغلظ } عثمان ، للإسلام { فاستوى على سوقه } علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، يعجب الزراع قال : هم المؤمنون . { ليغيظ بهم الكفار } قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سراً بعد اليوم .
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاءً ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا رجاء بن قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي في الجنة ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، في الجنة " .
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد النعيمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم ، حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الخزاعي ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . ورواه معمر عن قتادة مرسلاً وفيه : " وأقضاهم علي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء : حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيه فقلت : أي الناس أحب إليك . قال : عائشة ، فقلت : من الرجال . فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، فعد رجالاً فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم " . أخبرنا أبو منصور عبد المالك ، وأبو الفتح نصر بن الحسين ، أنبأنا علي بن أحمد ابن منصور بن محمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قال : حدثنا أبو الحسن محمد ابن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سلمة ، عن أبي الزهراء ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدً ارتج وعليه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أنبأنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : " عهد إلي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " .
أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " . قوله عز وجل : { ليغيظ بهم الكفار } أي : إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين . قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
أنبأنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل ، أنبأنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .
حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أنبأنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أنبأنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعرياني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إسكاف ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوماً ينتحلون حبك يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " في إسناد هذا الحديث نظر . وقول الله عز وجل : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم لفظه على معنى الشطء { مغفرة وأجراً عظيماً } يعني الجنة والله اعلم .
ثم حقق الله تلك الشهادة وبينها فقال { محمد رسول الله والذين معه } من المؤمنين { أشداء } غلاظ { على الكفار رحماء بينهم } متوادون متعاطفون { تراهم ركعا سجدا } في صلواتهم { يبتغون فضلا من الله } أن يدخلهم الجنة { ورضوانا } أن يرضى عنهم { سيماهم } علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } يعني نورا وبياضا في وجوههم يوم القيامة يعرفون بذلك النور أنهم سجدوا في دار الدنيا لله تعالى { ذلك مثلهم } صفة محمد ص وأصحابه { في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } فراخه ونباته { فآزره } قواه وأعانه أي قوى الشطأ الزرع كما قوى أمر محمد وأصحابه والمعنى أنهم يكونون قليلا ثم يكثرون وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه عليه السلام إذ خرج وحده فأيده بأصحابه كما قوى الطاقة من الزرع بما ينبت حوله { فاستغلظ } فغلظ وقوي { فاستوى } ثم تلاحق نباته وقام على { سوقه } جمع ساق { يعجب الزراع } بحسن نباته واستوائه { ليغيظ بهم الكفار } فعل الله تعالى ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } أي من أصحاب محمد عليه السلام { مغفرة وأجرا عظيما }
الأولى- قوله تعالى : " محمد رسول الله " " محمد " مبتدأ و " رسول " خبره . وقيل : " محمد " ابتداء و " رسول الله " نعته . " والذين معه " عطف على المبتدأ ، والخبر فيما بعده ، فلا يوقف على هذا التقدير على " رسول الله " . وعلى الأول يوقف على " رسول الله " ؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه ، فيكون " محمد " ابتداء و " رسول الله " الخبر " والذين معه " ابتداء ثان . و " أشداء " خبره و " رحماء " خبر ثان . وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه . وقيل : المراد ب " الذين معه " جميع المؤمنين . " أشداء على الكفار " قال ابن عباس : أهل الحديبية أشداء على الكفار ، أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته . " رحماء بينهم " أي يرحم بعضهم بعضا . وقيل : متعاطفون متوادون . وقرأ الحسن " أشداء على الكفار رحماء بينهم " بالنصب على الحال ، كأنه قال : والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم . " تراهم ركعا سجدا " إخبار عن كثرة صلاتهم . " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى .
الثانية- قوله تعالى : " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " السيما العلامة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر . وفي سنن ابن ماجة قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقال ابن العربي : ودسه قوم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف . وقد روى ابن وهب عن مالك " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف{[14031]} المسجد وكان على عريش ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين . وقال الحسن : هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة . وقاله سعيد بن جبير أيضا ، ورواه العوفي عن ابن عباس . قاله الزهري . وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ، وفيه : [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ] . وقال شهر بن حوشب : يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا وهو السمت الحسن . وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع . قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى : " سيماهم في وجوههم " أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع . وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء . وقال شمر بن عطية : هو صفرة الوجه من قيام الليل . قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . وقال الضحاك : أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة . وقال سفيان الثوري : يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقد مضى القول فيه آنفا . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .
الثالثة- قوله تعالى : " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " قال الفراء : فيه وجهان ، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على " الإنجيل " وإن شئت قلت : تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة ، ثم ابتداء فقال : ومثلهم في الإنجيل . وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل ، فيوقف على هذا على " التوراة " . وقال مجاهد : هو مثل واحد ، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل ، فلا يوقف على " التوراة " على هذا ، ويوقف على " الإنجيل " ، ويبتدئ : " كزرع أخرج شطأه " على معنى وهم كزرع . و " شطأه " يعني فراخه وأولاده ، قاله ابن زيد وغيره . وقال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه . قال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه ، والجمع أشطاء . وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه . قال الأخفش في قوله : " أخرج شطأه " أي طرفه . وحكاه الثعلبي عن الكسائي . وقال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج . قال الشاعر :
أخرج الشطء على وجه الثرى *** ومن الأشجار أفنان الثمر
الزجاج : أخرج شطأه أي نباته . وقيل : إن الشطء شوك السنبل ، والعرب أيضا تسميه : السفا ، وهو شوك البُهْمَى{[14032]} ، قاله قطرب . وقيل : إنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قال الفراء ، حكاه الماوردي . وقرأ ابن كثير وابن ذكوان " شطأه " بفتح الطاء ، وأسكن الباقون . وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب " شطاه " مثل عصاه . وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق " شطه " بغير همز ، وكلها لغات فيها .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه . فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان . وقال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . " فآزره " أي قواه وأعانه وشده ، أي قوى الشطء الزرع . وقيل بالعكس ، أي قوى الزرع الشطء . وقراءة العامة " آزره " بالمد . وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس " فأزره " مقصورة ، مثل فعله . والمعروف المد . قال امرؤ القيس :
بمَحْنِيَةَ{[14033]} قد آزر الضَّال نبتُها *** مَجَرَّ جيوشٍ غانمينَ وخُيَّبِ
" فاستغلظ فاستوى على سوقه " على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له . والسوق : جمع الساق . " يعجب الزراع " أي يعجب هذا الزرع زراعه . وهو مثل كما بينا ، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والشطء أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، قاله الضحاك وغيره . " ليغيظ بهم الكفار " اللام متعلقة بمحذوف ، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار .
الرابعة- قوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا " أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد ، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة . و " من " في قوله : " منهم " مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامة مجنسة ، مثل قوله تعالى : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " {[14034]} [ الحج : 30 ] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس ، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى ، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب ، فأدخل " من " يفيد بها الجنس وكذا " منهم " ، أي من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة . ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ، أي اجعل نفقتك هذا الجنس . وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلا لهم ، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة . وفي الآية جواب آخر : وهو أن " من " مؤكدة للكلام ، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما . فجرى مجرى قول العربي : قطعت من الثوب قميصا ، يريد قطعت الثوب كله قميصا . و " من " لم يبعض شيئا . وشاهد هذا من القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء " {[14035]} [ الإسراء : 82 ] معناه وننزل القرآن شفاء ، لأن كل حرف منه يشفي ، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض . على أن من اللغويين من يقول : " من " مجنسة ، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن ، ومن جهة القرآن ، ومن ناحية القرآن . قال زهير :
أمن أم أوفَى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ{[14036]}
أراد من ناحية أم أوفى دمنة ، أم من منازلها دمنة . وقال الآخر :
أخو رغائبَ يُعْطِيهَا ويسألُها *** يأبَى الظُّلاَمَةَ منه النَّوْفُلُ الزُّفَرُ{[14037]}
ف " من " لم تبعض شيئا ، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر . والنوفل : الكثير العطاء . والزفر : حامل الأثقال والمؤن عن الناس .
الخامسة- روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية " محمد رسول الله والذين معه " حتى بلغ " يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " . فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ، ذكره الخطيب أبو بكر .
قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله . فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال الله تعالى : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار " الآية . وقال : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " [ الفتح : 18 ] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " {[14038]} [ الأحزاب : 23 ] . وقال : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " إلى قوله " أولئك هم الصادقون " {[14039]} [ الحشر : 8 ] ، ثم قال عز من قائل : " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " إلى قوله " فأولئك هم المفلحون " {[14040]} [ الحشر : 9 ] . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ) وقال : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) خرجهما البخاري . وفي حديث آخر : ( فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) . قال أبو عبيد : معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد ، فالنصيف هو النصف هنا . وكذلك يقال للعشر عشير ، وللخمس خميس ، وللتسع تسيع ، وللثمن ثمين ، وللسبع سبيع ، وللسدس سديس ، وللربع ربيع . ولم تقل العرب للثلث ثليث .
وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا : ( إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ) . وقال : ( في أصحابي كلهم خير ) . وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا{[14041]} ولا عدلا ) . والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها ، فروايته مطروحة . وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة ، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة . فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما ، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما . فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابه ، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه . وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ، فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن فقلت : اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه ، فسلمني منه . فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النطع{[14042]} ، فلما بصر بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء{[14043]} به ، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم .
قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله . هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة . وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم . ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث . وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : " مغفرة وأجرا عظيما " . وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك . وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب . وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة " الحجرات " مبينة إن شاء الله تعالى .
{ والذين معه } يعني : جميع أصحابه وقيل : من شهد معه الحديبية وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع ، وقيل : الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا والأول عندي أرجح لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأما على ما اختاره ابن عطية فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه : { بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وقال : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين { سيماهم في وجوههم } السيما العلامة وفيه ستة أقوال :
الأول : أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلي من كثرة السجود .
الثاني : أنه أثر التراب في الوجه .
الثالث : أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة .
الرابع : حسن الوجه لما ورد في الحديث : " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " . وهذا الحديث غير صحيح بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه .
السادس : أن ذلك يكون في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله : { تراهم ركعا سجدا } وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك ، والأول أظهر ، وقد كان بوجه علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود .
{ ذلك مثلهم في التوراة } أي : وصفهم فيها وتم الكلام هنا ، ثم ابتدأ قوله و{ مثلهم في الإنجيل } ، كزرع ، وقيل : إن { مثلهم في الإنجيل } عطف على { مثلهم في التوراة } ثم ابتدأ قوله : { كزرع } وتقديره : هم كزرع ، والأول أظهر ، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة .
{ كزرع أخرج شطأه } هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ، ثم قوي وظهر ، وقيل : الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطأ وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، ويقال : بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات .
{ فآزره } أي : قواه وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول شطأه أو بالعكس لأن كل واحد منهما يقوي الآخر ، وقيل : معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله ، وقيل : أفعله ، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل .
{ فاستوى على سوقه } جمع ساق أي : قام الزرع على سوقه ، وقيل : قوله : { كزرع } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب .
{ ليغيظ بهم الكفار } تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقيل : يتعلق بوعد وهو بعيد { منهم } لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم .
ولما{[60520]} ختم سبحانه بإحاطة العلم بالخفايا والظواهر في الإخبار بالرسالة ، عينها في قوله جواباً لمن يقول : من الرسول المنوه باسمه{[60521]} : { محمد رسول الله } أي الملك الذي لا كفوء له ، فهو{[60522]} الرسول الذي لا رسول يساويه لأنه رسول إلى جميع الخلق ممن أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه ، وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه ، وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم ، لا يكتب الرحمة التي وسعت كل شيء إلا لمن وقع العلم بالمحيط بإنه يؤمن به ، فما عمل عامل عملاً صالحاً إلا كان له مثل أجره ، تقدم ذلك العامل أو تأخر ، كان من أهل السماء أو من أهل الأرض ، وهذا أمر لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى ، وأشار بذلك إلى هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الختام - بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج ، وهي محيطة بما أشارت إليه صورته ، وكررت في الاسم {[60523]}بعده غاية{[60524]} التأكيد ، وهو ثلاث - كما أشار إليه اسمه : أحمد - إلى أنه مع كونه خاتماً فهو فاتح بما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم " كنت أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً " واختصت به سورة الصف ليعادل ذلك بتصريح المبشر به عليه{[60525]} الصلاة والسلام بالبعدية{[60526]} في قوله
{ برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }[ الصف : 6 ] وأشارت الميم أوله أيضاً إلى بعثه عند الأربعين ، وما بقي من حروفه وهي حمد يفيد{[60527]} له كمال{[60528]} الحمد بالفعل في السنة الثانية والخمسين من عمره وهي الثانية {[60529]}عشرة من نبوته{[60530]} ببيعة الأنصار رضي الله عنهم ، وقد أشارت هذه السورة إلى كلمة الإخلاص تلويحاً بما ذكرت من كلمة الرسالة تصريحاً وبطنت{[60531]} سطوة الإلهية {[60532]}وظهرت{[60533]} الرحمة المحمدية - كما أشارت القتال إلى الرسالة تلويحاً وصرحت بسطوة الإلهية-{[60534]} بكلمة الإخلاص والناشئة{[60535]} عن القتال تصريحاً ، وقد تقدم في القتال نبذة من أسرار الكلمتين{[60536]} . ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى : { والذين معه } أي بمعية{[60537]} الصحبة من أصحابه وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان : ولما كان شرف القوم شرفاً لرئيسهم ، مدحهم بما يشمله فقال تعالى : { أشداء على الكفار } فهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته ، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم { رحماء بينهم } كالوالد مع الولد ، لأن الله تعالى أمرهم باللين للمؤمنين ، ولا مؤمن في زمانهم إلا من كان من أهل دينهم ، فهو يحبهم ويحبونه بشهادة آية المائدة .
ولما كان هذا بخلاف ما وصفت به الأمم الماضية من أنهم ما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم ، فكان عجباً ، بين الحامل عليه بقوله : { تراهم } أي أيها الناظر لهم { ركعاً سجداً } أي دائمي الخضوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملائكة على صفاتهم الحيوانية ، فكانت الصلاة آمرة لهم بالخير مصفية عن كل نقص وضير{[60538]} .
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء ، بين إخلاصهم بقوله : { يبتغون } أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم { فضلاً } أي زيادة في الخير { من الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ، ولا محسن سواه . ولما ذكر عبادتهم وطلبهم الزيادة منها ومن غيرها من فضل الله الذي لا يوصل إلى عبادته إلا بمعونته ، أتبعه المطلوب الأعلى فقال : { ورضواناً } أي رضاء منه عظيماً .
ولما ذكر كثرة عبادتهم وأتبعها إخلاصهم فيها اهتماماً به لأنه لا يقبل عملاً بدونه ، دل على كثرتها بقوله : { سيماهم } أي علامتهم التي لا تفارقهم { في وجوههم } ثم بين العلامة بقوله : { من أثر السجود } فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني{[60539]} عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم{[60540]} - هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث أنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه{[60541]} ذكر الله ، وإذا قرأ أورثت قراءته حزناً وخشوعاً وإخباتاً وخضوعاً ، وإن كان رث الحال رديء الهيئة ، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر سجود في جبهته ، فإذا ذلك من سيما الخوارج ، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير-{[60542]} الثفن{[60543]} : ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : رأى رجلاً بين عينيه مثل-{[60544]} ثفنة العنز ، فقال : لو لم يكن هذا لكان خيراً - يعني كان على جبهته أثر السجود ، وإنما كرهها خوفاً من الرياء بها ، وقد روى صاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه عن{[60545]} النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{[60546]} : " إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود{[60547]} " .
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاه الله من جميع حظوظه وشهواته ، أشار إلى علوه فقال : { ذلك } أي هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال { مثلهم في التوراة } فإنه{[60548]} قال فيها : أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير ، وظهر لنا من جبل فاران ، معه ربوات{[60549]} الأطهار على يمينه ، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك . فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره صلى الله عليه وسلم ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته ، وأنهم في الطهارة كالملائكة ، وأيد ذلك جعلهم من أهل اليمين ، ووصفهم بالتحبيب إلى الشعوب ، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من شهادة الوجود - هذا مع-{[60550]} ما وجدته في التوراة بعد تبديلهم لما بدلوا منها وإخفائهم كما قال الله-{[60551]} تعالى لكثير{[60552]} ، وروى {[60553]}أصحاب فتوح{[60554]} البلاد في فتح بيت المقدس عن كعب الأحبار أن سبب إسلامه أن أباه كان-{[60555]} أخبره أنه ذخر{[60556]} عنه ورقتين جعلهما في كوة وطين عليهما ، وأمره أن يعمل بهما بعد موته ، قال : فلما مات فتحت عنهما فإذا فيهما : محمد رسول الله صلى الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره{[60557]} بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح ، وإن{[60558]} أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شيء وعلى كل حال ، ويذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناواه ، يغسلون فروجهم بالماء ، ويؤثرون على أواسطهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، يأكلون قربانهم{[60559]} في بطونهم ويؤجرون عليها ، تراحمهم بينهم تراحم بين الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، هم السابقون المقربون والشافعون والمشفع لهم .
وأصله في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفي الدارمي عن كعب هذا ، ولأصحاب الفتوح عن سمرة بن حوشب عن كعب قال : قلت لعمر رضي الله عنه وهو بالشام عند انصرافه : يا أمير المؤمنين ! إنه مكتوب في كتاب الله " إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء ، أتباعه رهبان بالليل أسد بالنهار ، متراحمون متباذلون " فقال عمر : ثكلتك أمك أحق ما تقول ؟ قلت : أي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول ! إنه لحق ، فقال عمر : فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ورحمته{[60560]} التي وسعت كل شيء - هذا على أن المراد بالمثل الوصف ، ويمكن أن يكون على حقيقته ، ويكون الذي في التوراة ما ترجمته " هم على أعدائهم كقرون الحديد وفيما بينهم في النفع والتواصل كالماء والصعيد ، ولربهم كخامة الزرع مع الريح والصديق النصيح{[60561]} ، وفي الإقبال على الآخرة كالمسافر الشاحب والباكي الناحب " فعبر عنه في كتابنا بما ذكر .
ولما ذكر مثلهم في الكتاب الأول ، أتبعه الكتاب الثاني الذي هو ناسخ ليعلم أنه قد{[60562]} أخذ على كل ناسخ لشريعته{[60563]} أن يصفهم لأمته ليتبعوهم إذا دعوهم فقال : { ومثلهم في الإنجيل } أي الذي نسخ الله به بعض أحكام التوراة { كزرع } أي مثل زرع { أخرج شطأه } أي فراخه وورقه وما خرج حول أصوله ، فكان ذلك كله مثله .
ولما ذكر هذا الإخراج سبب عنه قوله { فآزره } أي فأحاط به الشطأ ، فقواه وطهره من غير نبتة نبتت عنه فتضعفه و{[60564]}ساواه وحاذاه{[60565]} وعاونه ، ويظهر أن قراءة الهمزة بالمد{[60566]} على المفاعلة أبلغ من قراءة ابن عامر بالقصر ، لأن الفعل إذا كان بين اثنين يتجاذبانه كان الاجتهاد{[60567]} فيه أكثر ، ثم سبب عن المؤازرة قوله : { فاستغلظ } أي فطلب المذكور من الزرع والشطأ{[60568]} الغلظ وأوجده{[60569]} فتسبب عن ذلك اعتداله{[60570]} { فاستوى } أي وجد فيه القيام العدل وجوداً عظيماً كأنه-{[60571]} كان بغاية الاجتهاد والمعالجة { على سوقه } أي قصبه ، جمع ساق ، وهو ما قام عليه الشيء ، حال كون هذا المذكور من الزرع والشطأ { يعجب الزراع } ويجوز كونه استنئافاً للتعجب منه والمبالغة في مدحه وإظهار السرور في أمره ، وإذا أعجبهم{[60572]} وهم في غاية العناية بأمره والتفقد لحاله والملابسة له ومعرفة معانيه كان{[60573]} لغيرهم أشد إعجاباً ، ومثل لأنهم يكونون قليلين ثم يكثرون مع البهجة في عين الناظر لما لهم من الرونق الذي منشؤه نور الإيمان وثبات الطمأنينة والإيقان وشدة الموافقة{[60574]} من بعضهم لبعض ، ونفي المخالف لهم وإبعاده ، وقد تقدم في هذا الكتاب في آخر المائدة أمثال ضربت في الإنجيل بالزرع أقربها إلى هذا مثل حبة{[60575]} الخردل فراجعه .
ولما أنهى سبحانه مثلهم-{[60576]} ، ذكر الثمرة في جعلهم كذلك فقال : { ليغيظ } معلقاً له بما يؤخذ من معنى الكلام وهو جعلهم كذلك لأجل أن يغيظ { بهم } أي غيظاً شديداً{[60577]} بالغ القوة والإحكام { الكفار } وذلك أنهم لما كانوا أول الأمر قليلاً ، كان الكفار طامعين{[60578]} في أن لا يتم لهم أمر ، فكلما ازدادوا{[60579]} كثرة مع تمادي الزمان زاد غيظ الكفار منهم ، فكيف إذا رأوا مع الزيادة والقوة منهم حسناً ونضارة ورونقاً وبهجة ، فهو{[60580]} في الغيظ مما لو-{[60581]} كانوا في أول الأمر كثيراً لأنه كان يكون دفعه ويقصر زمنه ، فمن أبغض صحابياً خيف عليه الكفر لأنهم أول مراد بالآية ، وغيرهم بالقصد الثاني وبالتبع{[60582]} ، ومن أبغضهم كلهم كان كافراً ، وإذا حملناه على غيرهم كان دليلاً على أن كل{[60583]} من خالف الإجماع كفر - قاله القشيري .
ولما ثم مثلهم وعلة جعلهم كذلك ، بشرهم فقال في موضع وعدهم{[60584]} لتعليق الوعد بالوصف على عادة القرآن ترغيباً في التمسك به وترهيباً من مجانبته : { وعد الله } أي الملك الأعظلم { الذين آمنوا } ولما كان الكلام في الذين معه صلى الله عليه وسلم ، وكانت المعية ظاهرة في الاتحاد في الدين لم تكن شاملة للمنافقين ، فلم يكن الاهتمام {[60585]}بالتقييد بمنهم هنا{[60586]} كالاهتمام به في سورة النور ، فأخره وقدم العمل لأن العناية به-{[60587]} هنا أكثر ، لأنه من سيماهم المذكورة{[60588]} فقال : { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الكون معه في الدين { الصالحات } ولما كان قوله " معه{[60589]} " يعم كما مضى من بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وكان الخلل فيمن بعدهم كثيراً ، قيد بقوله : { منهم } أي من الذين معه صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من أصل الزرع أو فراخه التي أخرجها وهم التابعون{[60590]} لهم بإحسان .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عن بلوغ ما يحق له من العبادة ، أشار إلى ذلك بقوله : { مغفرة } أي لما يقع منهم من الهفوات أو الذنوب والسيئات { وأجراً عظيماً * } بعد ذلك الستر ، وقد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر{[60591]} التصريحية باجتماع أمرهم وعلو نصرهم ، وذلك أنه لما كانت هذه العمرة قد حصل لهم فيها كسر لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم من الدخول إلى مكة المشرفة والطواف بالبيت العتيق ، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قبلهم كما كان في غزوة أحد على ما مضى من{[60592]} بيانه في آل عمران التي هي سورة التوحيد الذي كلمته كلمة التقوى عند الآية الثانية لهذه ، بشرهم سبحانه بما في هذه السورة من البشائر الظاهرة تصريحاً وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف المعجم تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد من تمامه ، واشتداد سلكه وانبرامه ، واتساق شأنه وانتظامه ، وخفوق ألويته وأعلامه ، وافتتحها بميم " محمد " وهي مضمومة ، وختمها بميم " عظيماً " المنصوبة إشارة بما للميم من الختام بمخرجها إلى أن تمام الأمر قد دنا جداً{[60593]} إبانه ، وحضر زمانه ، وبما في أولها من الضم إلى رفعة دائمة في حمد-{[60594]} كثير ، وبما في آخرها من النصب إلى تمام الفتح وانتشاره ، وقربه واشتهاره ، على وجه عظيم ، وشرف في علو جسيم ، وأومأ تدويرها إلى أنه أمر لا انتهاء له ، بل كلما ختم ابتدأ ، وقد ظهر من هذا وما في صريح الآية من القوة المعزة للمؤمنين المذلة للكافرين رد مقطعها على مطلعها بالفتح للنبي صلى الله عليه وسلم والتسكين العظيم لأصحابه-{[60595]} رضي الله عنهم ، والرحمة والمغفرة والفوز العظيم لجميع أتباعه وأنصاره وأشياعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وجعلنا{[60596]} بمنه وكرمه منهم{[60597]} ،
وهذا آخر القسم الأول من القرآن ، وهو المطول ، وقد ختم - كما ترى - بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحاصلهما الفتح له بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً كما ختم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً - {[1]}والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه{[2]} . {[3]}