سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون ، نزلت بعد سورة غافر ، وتسمى السجدة . وأول ما بدئت به السورة هو التنويه بالقرآن الكريم ، وأنه كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا ، وبذلك سميت " سورة فصلت " . وهي كباقي السور المكية تعالج قضية العقيدة بحقائقها الأساسية ، الألوهية الواحدة ، والحياة الآخرة ، والوحي والرسالة . وكل ما في السورة شرح لهذه الحقائق واستدلال عليها . كذلك بيّنت موقف المشركين من القرآن ، والإعراضَ عنه ، ومحاربة دعوته ، وموقف الرسول الكريم منهم من الثبات على دعوته ، وبيان وحدة الألوهية : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد . . . } ، ويكثر الكلام عن الوحي والقرآن والجدل فيه .
وتذكّر السورة المشركين بقدرة الله في خلق السموات والأرض ، ثم تخوّفهم مما وقع لأقرب الأمم إلى ديارهم عاد وثمود ، وتذكّرهم بالآخرة ، يومَ يشهد عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ، وما يكون بينهم وبين أعضائهم من المجادلة يومئذ .
وكما تحدثت السورة عن الكافرين وعنادهم تحدثت عن المؤمنين { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا . . . } كيف تتنزل عليهم الملائكة يبشّرونهم بالجنة وما أعدّ الله لهم فيها ، ضيافة من الله الغفور الرحيم . ثم تبيّن أخلاق المسلمين ، وتعطينا درسا رفيعا في الأخلاق والسيرة الحسنة ، وكيف ندعو إلى الله : { ومن أحسنُ قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادْفغ بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم } .
ما أحلى هذا الكلام العظيم ، وما أرقى هذه الأخلاق لو تمشّينا على هداها !
{ وما يُلقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم } . اللهم اجعلنا منهم وحسّن أخلاقنا يا رب العالمين .
وتنتقل السورة فتوجه الأنظار إلى آيات الله وقدرته في هذا الكون الفسيح من أمر البعث وإحياء الموتى ، وتشدِّد النكير على المحرّفين لآيات الله ، وأن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ثم تبين خُلُقا من أخلاق الإنسان : فهو إذا أنعم الله عليه أعرضَ عن الحق ، وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض .
ثم تُختم السور بتقرير أمرين هما من أهم ما اشتملت عليه من الأغراض ، أولهما : التنويه بالقرآن الكريم كما بدئت السورة به ، وثانيهما : أن ما عليه الكافرون ما هو إلا شك في البعث حملهم على الكفر والضلال { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ، ألا إنه بكل شيء محيط } .
وهكذا تعرض حقائق العقيدة بتفصيل في هذه السورة الكريمة في هذا الحشد من المؤثرات العميقة ، فنجد أننا في مطلع السورة إلى ختامها نقف أمام مؤثرات تجول بنا في ملكوت السموات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، يتأثر بها المؤمنون ، وينأى عنها المبطلون ، { وما ربُّك بظلاّم للعبيد } .
حاميم : حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة ، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن .
هذه السورة مكية ، وعدد آياتها أربع وخمسون . وهي سورة عظيمة تمتاز بكثرة ما حوته من صور الوعيد والتهديد والتخويف والتنذير ؛ فهي ما يتدبرها القارئ ويتملاها حتى تأخذه غمرة من الرهبة والادِّكار والوجل ، من شدة ما حوته مع بليغ الآيات والعظات والأخبار ، وصور التنبيه والتذكير التي تستديم في الذهن والخيال دوام الترقب والخشوع والحذر .
ويشير إلى هذه الحقيقة أبلغ إشارة قصة ذلك العربي القرشي اللسِنِ عتبة بن ربيعة ، وهو من أفذاذ البلاغة والبيان ؛ فإنه لدى سماع بضع آيات من مطلع هذه السورة ، غشيه من الذهول والفزع ما غشيه حتى مكث ساكتا مضطربا يتلعثم ، مع أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاحدا ومنددا ومحذرا . ثم تولى مدبرا مذعورا من هول ما سمع .
وفي السورة ، يقص الله عن نبأ قوم عاد ، إذ أعرضوا وجحدوا فأخذهم الله بريح قاصف عاصف مدمِّر . وكذلك قوم ثمود الذين ظلموا وطغوا وعقروا ناقة الله فأخذتهم الصيحة والرجفة حتى زلزلوا وهلكوا .
وفي السور إخبار عن شهادة جلود الظالمين الخاسرين ، إذ تشهد عليهم بما فعلوه من المعاصي والسيئات ، إذ أنطقها الله الذي أنطق كل شيء .
ويبينُ اللهُ لنا في السورة تمالؤ المشركين على كتابه الحكيم باللغو فيه إذا سمعوه يُتلى كيلا يفهموه ولا يتدبروه . إلى غير ذلك من ألوان التبشير والتنذير والتحذير والوعيد والترشيد مما حوته هذه السورة الحافلة العجيبة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
تتضمن هذه الآيات وما بعدها تقريعا وتوبيخا وتهديدا للمشركين الذين أعرضوا عن عقيدة التوحيد وأدبروا عن سماع القرآن وما فيه من العظات والحجج والشواهد والمعاني . مع أنه كتاب نزل ميسورا مفصلا بلغتهم ، يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر والظلم والباطل ويبشرهم بخير الدنيا والآخرة { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } .
وقد روي عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أن عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ . وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، وإنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرَّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ؛ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندهم غير هذا ؟ وفي رواية عن جابر بن عبد الله ؛ إذا ذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .
وأورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدِّثتُ أن عتبة بن ربيعة – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم على محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفَّ عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة ( رضي الله عنه ) ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون – فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمهُ . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده على نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم ، قال " فاستمع مني " قال : أفعل ، قال : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه ، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ؛ فو الله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزَّهُ عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم{[4040]} .