ادفع بالتي هي أحسن : رُدَّ الإساءة باللين والحسنى .
وبعد ذلك أعقب بالدعوة إلى حسن المعاملة بين الناس فقال :
{ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة }
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة ، ادفعْ أيها المؤمن الإساءة إن جاءتك بالقول الحسن والّلِين ، فإذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما ، وناصرا مخلصا .
{ 34 - 35 } { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
يقول تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } أي : لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى ، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه ، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ، ولا الإساءة إليهم ، لا في ذاتها ، ولا في وصفها ، ولا في جزائها { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }
ثم أمر بإحسان خاص ، له موقع كبير ، وهو الإحسان إلى من أساء إليك ، فقال : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ، خصوصًا من له حق كبير عليك ، كالأقارب ، والأصحاب ، ونحوهم ، إساءة بالقول أو بالفعل ، فقابله بالإحسان إليه ، فإن قطعك فَصلْهُ ، وإن ظلمك ، فاعف عنه ، وإن تكلم فيك ، غائبًا أو حاضرًا ، فلا تقابله ، بل اعف عنه ، وعامله بالقول اللين . وإن هجرك ، وترك خطابك ، فَطيِّبْ له الكلام ، وابذل له السلام ، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان ، حصل فائدة عظيمة .
{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي : كأنه قريب شفيق .
ولما كان التقدير : لا أحد أحسن قولا منه ، بل هو المحسن وحده ، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً ، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله ، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى ، وغير ذلك من جميع الأخلاق ، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال : { ولا تستوي } أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار { الحسنة } أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها ، لتفاوت الحسنات في أنفسها ، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها ، وإلى ذلك أشار بالتأكيد في قوله : { ولا السيئة } أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر .
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء ، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات ، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها ، أنتج عند قصد الأعلى فقال : { ادفع } أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس { بالتي } أي الخصال والأحوال التي { هي أحسن } على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن ، والإحسان أحسن منه { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه { كأنه ولي } أي قريب ما يفعل القريب { حميم * } أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره ، وشفا علله ، وقرب بعيده ، وأزال درنه ، كما يزيل الماء الحار الوسخ .
قوله : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي لا يستوي التوحيد والشرك ، ولا تستوي الطاعة والمعصية ، أو لا يستوي الحق والباطل ولا الهدى والضلال . وقيل : الحسنة ههنا بمعنى العفو والرفق ، والسيئة : الفحش والغلظة ؛ والأولى بالصواب أن الآية تعم كل هذه المعاني فإنه لا تستوي الحسنة بكل وجوهها ، من توحيد وعدل وفضيلة واستقامة ورحمة ، ولا السيئة بكل صورها وأجناسها من الإشراك والعصيان والضلال والظلم والفحش فهما كلاهما لا يستويان .
قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قال ابن عباس : ادفع بحلمك جهل من جهل عليك ، وقال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم . وعنه أيضا : هو الرجل يسبُّ الرجل فيقول الآخر : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كننت كاذبا فغفر الله لك ، وروي في الأثر : أن أبا بكر قال ذلك لرجل نال منع شرا . أي عفا عنه وقال له خيرا ، وقيل : التي هي أحسن ، يعني السلام إذا لقي من يعاديه . وقال ابن العربي : المراد به المصافحة ، وفي الأثر : " تصافحوا يذهب الغلُّ " وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة . وبذلك فإن المصافحة ثابتة ولا وجه لإنكارها ، وقد سئل أنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وفي الأثر : من تمام المحبة ، الأخذ باليد ، ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجرُّ ثوبه ، فاعتنقه وقَبَّله .
وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما " .
قوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } يعني : بهذا الذي أمرتك به من دفع الإساءة بالعفو والإحسان يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ، كأنه قريب صديق ، وهذه معلومة لا شك فيها ، وهي أن العفو والصفح عن المسيء ثم الإحسان إليه يسوقه – طواعية – إلى الندم ومراجعة النفس ليبادر خصمه المودة والملاطفة بعد ضغينة وجفاء ، وهذه حقيقة تتجلى ظاهرة مكشوفة في المتخاصمين المتباغضين من الناس إذا بادر أحدهم الآخر ، الإحسان والصفح . لا جرم أن الإحسان للآخرين من الخصوم وملاطفتهم بالمودة والرحمة يفجِّر في أعماقهم نوازع الخير التي جُبل عليها الناس ، على تفاوت بينهم .
وتلكم هي طبيعة الإنسان المشحونة بنوازع الخير والرحمة والجنوح للندامة والحياء ، ظواهر إنسانية كريمة تثيرها وتهيجها بواعث كثيرة وفي طليعتها العفو ومقابلة الإساءة بالإحسان ؛ على أن ذلك يقال في الأسوياء من البشر أولي الطبائع السليمة والفِطر السَّوية المستقيمة ، أما الجانحون للخسَّة والإيذاء والشر ، أولو الطبائع المعوجة ، والفطر المنحرفة السقيمة ، والنفوس التي استحوذ عليها الرانُ والشذوذ والانحراف ، فإنها أبعد الخلق عن التأثر بالإحسان والاستجابة لخصال اللين والرأفة والتسامح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.