الأولى- قوله تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه " بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه ، فقد يطيعهما وقد يخالفهما ، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض . فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض ، قاله القشيري .
الثانية- قوله تعالى : " حسنا " قراءة العامة " حُسناً " وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام . وقرأ ابن عباس والكوفيون " إحسانا " وحجتهم قوله تعالى في سورة ( الأنعام وبني إسرائيل ) : " وبالوالدين إحسانا " {[13831]} [ الأنعام : 151 ] وكذا هو في مصاحف الكوفة . وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت : " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا " {[13832]} [ العنكبوت : 8 ] ولم يختلفوا فيها . والحسن خلاف القبح . والإحسان خلاف الإساءة . والتوصية الأمر . وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت{[13833]} .
الثالثة- قوله تعالى : " حملته أمه كرها ووضعته كرها " أي بكره ومشقة . وقراءة العامة بفتح الكاف . واختاره أبو عبيد ، قال : وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " {[13834]} [ البقرة : 216 ] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر . وقرأ الكوفيون " كرها " بالضم . قيل : هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد ، قاله الكسائي ، وكذلك هو عند جميع البصريين . وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما : إن الكره ( بالضم ) ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره ، أي قهرا وغضبا ، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها ( بفتح الكاف ) لحن .
الرابعة- قوله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " قال ابن عباس : إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا . وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقضي عليها بالحد ، فقال له علي رضي الله عنه : ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقال تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " [ البقرة : 233 ] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر ، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها . وقد مضى في " البقرة " {[13835]} . وقيل : لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل ، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به ، وهو معنى قوله تعالى : " فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به " {[13836]} [ الأعراف : 189 ] . والفصال الفطام . وقد تقدم في " لقمان " {[13837]} الكلام فيه . وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما " وفصله " بفتح الفاء وسكون الصاد . وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا ، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا . وفي الكلام إضمار ، أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا ، ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى .
الخامسة- قوله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده " قال ابن عباس : " أشده " ثماني عشرة سنة . وقال في رواية عطاء عنه : إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة ، وهم يريدون الشام للتجارة ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين . فقال الراهب : من الرجل الذي في ظل الشجرة ؟ فقال : ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب . فقال : هذا والله نبي ، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى . فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره . فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة ، صدق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة . فلما بلغ أربعين سنة قال : " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " الآية . وقال الشعبي وابن زيد : الأشد الحلم . وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين . وعنه قيام الحجة عليه . وقد مضى في " الأنعام " الكلام{[13838]} في الآية . وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص . وقد تقدم{[13839]} . وقال الحسن : هي مرسلة نزلت على العموم . والله أعلم .
السادسة- قوله تعالى : " قال رب أوزعني " أي ألهمني . " أن أشكر نعمتك " في موضع نصب على المصدر ، أي شكر نعمتك " علي " أي ما أنعمت به علي من الهداية " وعلى والدي " بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا . وقيل : أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة . وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره ، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده . ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم . وأمه أم الخير ، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد . وأم أبيه أبي قحافة " قيلة " " بالياء المعجمة باثنتين من تحتها " . وامرأة أبي بكر الصديق اسمها " قتيلة " " بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها " بنت عبد العزى . " وأن أعمل صالحا ترضاه " قال ابن عباس : فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من أصبح منكم اليوم صائما ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن تبع منكم اليوم جنازة ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن عاد منكم اليوم مريضا ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ] .
السابعة- قوله تعالى : " وأصلح لي في ذريتي " أي اجعل ذريتي صالحين . قال ابن عباس : فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده . ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر . وقال سهل بن عبد الله : المعنى اجعلهم لي خلف صدق ، ولك عبيد حق . وقال أبو عثمان : اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك . وقال ابن عطاء : وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم . وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا . وقال مالك بن مقول : اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف ، فقال : استعن عليه بهذه الآية ، وتلا : " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين " . " إني تبت إليك " قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه . " وإني من المسلمين " أي المخلصين بالتوحيد .
قوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين 15 أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } .
هذه آيات بينات يوصي الله فيهن بالوالدين إحسانا . وفي ذلك من بالغ التكريم والتعظيم للآباء والأمهات ما ليس له في الملل والعقائد والفلسفات نظير . وذلكم هو القرآن الحكيم بآياته العجاب ، وإعجازه الباهر ، وأسلوبه المميز الفذ ، يحرض على الاهتمام بالوالدين ، ببذل الخير والتبجيل لهما ، ودفع الأذى والشر وكل وجوه الإساءة عنهما ، وذلك ليتبوأ الوالدان في كنف الأولاد خير منزلة من منازل الاحترام والإكرام والتقدير : وأيما إساءة بعد ذلك أو بذاءة من لسان أو إهانة لأحدهما أو كلاهما فإنه فسق عن دين الله وعصيان لرب العباد .
وتكريم الوالدين يأتي في ذروة العبادات التي يتقرب بها العبد من ربه ، وذلك بجم التواضع لهما وعظيم الإحسان إليهما وأرقى الدرجات من التأدب في مخاطبتهما . وإذا لم يكن المرء مع أبويه كذلك فيوشك حينئذ أن يهوي بنفسه في جهنم . وذلكم قوله سبحانه : { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } { إحسانا } منصوب على المصدر ، وتقديره : ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إحسانا{[4207]} فقد أمر الله الإنسان أن يحسن إلى والديه بالحنو عليهما والرأفة بهما وبتكريمهما . وفي سبب نزول هذه الآية روى أبو داود عن سعد ( رضي الله عنه ) قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ؟ فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا . ونزلت هذه الآية .
قوله : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } حملت الأم ولدها جنينا في بطنها في مشقة ووضعته لدى الولادة في مشقة ، وفي ذلك من شديد العسر والكرب والإيلام على الأمهات ما لا يخفى . ويراد بذلك ، التذكير بعظيم فضل الأم على ولدها لكي يحسن إليها ويحدب عليها بالغ الحدب وأن يبذل لها من وجوه التعظيم والاحترام ما يولجه في زمرة المؤمنين الصادقين .
قوله : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } أي أن مدة حمل الإنسان في بطن أمه ومدة فصاله وهو فطامه من الرضاع { ثلاثون شهرا } وبذلك فإن ثلاثين شهرا هي المدة من عند ابتداء الحمل إلى أن يفصل من الرضاع ، أي يفطم عنه .
ويستدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع الكامل سنتان لقوله سبحانه : { يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أ ن يتم الرضاعة } قال ابن عباس في ذلك ، إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا . وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا . وروي أن عثمان قد أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له علي ( رضي الله عنه ) : ليس ذلك عليها . قال الله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وقال تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } فالرضاع أربعة وعشرون شهرا ، والحمل ستة أشهر . فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها .
قوله : { حتى إذا بلغ أشده } الأشد ، واحد جاء على بناء الجمع . وقيل : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل ومذاكير{[4208]} . والأشد ، هو تناهي قوة المرء واختلفوا في مدة الأشد . فقد قيل : ثلاث وثلاثون سنة . وقيل : الحلم . وقيل : ثماني عشرة سنة { وبلغ أربعين سنة } وذلك تناهي عقل الإنسان واكتمال فهمه وحلمه وتدبيره .
روى الحافظ أبو يعلى بإسناده عن عثمان ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه . وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه الله تعالى في أهل بيته وكتب في السماء أسير الله في أرضه " .
قوله تعالى : { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } إذا بلغ المرء سن الأربعين وفيها يكتمل الفهم والتدبير والإرادة – دعا ربه أن ألهمني شكر نعمتك علي وعلى والدي بالهداية والتوفيق وغير ذلك من وجوه النعم .
قوله : { وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي } يعني وألهمني أن أعمل الصالحات التي ترضاها وأصلح لي أموري في ذريتي بأن تجعلهم صالحين مهديين عاملين بشرعك ، مبتغين مرضاتك .
قوله : { إني تبت إليك وإني من المسلمين } أي تبت إليك من ذنوبي التي سبقت مني في سالف أيامي وإني من المستسلمين لأمرك الخاضعين لك بالطاعة والإذعان .