الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ} (80)

قوله تعالى : " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " نبه تعالى على وحدانيته ، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب . وذلك أن الكافر قال : النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة ، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة ! فأنزل الله تعالى : " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان ، فأخرج الله منه النار ؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد ، وهو على كل شيء قدير . معني بالآية ما في المرخ والعفار ، وهي زنادة العرب ، ومنه قولهم : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار{[13236]} ؛ فالعفار الزند وهو الأعلى ، والمرخ الزندة وهي الأسفل ، يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار . وقال : " من الشجر الأخضر " ولم يقل الخضراء وهو جمع ؛ لأن رده إلى اللفظ . ومن العرب من يقول : الشجر الخضراء ، كما قال عز وجل : " من شجر من زقوم فمالئون منها البطون " [ الواقعة : 52 ] .


[13236]:استمجد المرخ والعفار: أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما. وهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ} (80)

ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء - إذا صار تراباً واختلط بالتراب - عن غيره من التراب ، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده ، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه ، فقال معيداً للوصول تنبيهاً على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حياً : { الذي جعل لكم } أي متاعاً واستبصاراً { من الشجر الأخضر } الذي تشاهدون فيه الماء { ناراً } بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهو أنثى - فتخرج النار ! قال أبو حيان : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب - انتهى .

ولذلك قالوا في المثل المشهور : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار { فإذا أنتم } أي فيتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنكم { منه } أي الشجر الموصوف بالخضرة بعينه { توقدون * } أي توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى ، ما هو بخيال ولا سحر بل حقيقة ثابتة بينة ، وكأنه قدم الجار لكثرة إيقادهم منه ، إيقادهم من غيره لذلك ولعظمته عدماً .

ولما كان ذلك من غير كلفة عليهم ، قدم الجار تخصيصاً له وعداً لغيره كالمعدوم ، فالذي قدر على تمييز النار من الماء والخشب وخبء النار فيهما لا النار تعدو على الخشب فتحرقه ولا الماء يعدو على النار فيطفئها قادر على تمييز تراب العظام من تراب غيرها ، ونفخ الروح كما نفخ روح النار في الحطب المضاد له بالمائية .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ} (80)

قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا } خلق الله الشجر وجعله خضرا ذا نُضْرة وينْعٍ ثم يصير حطبا يابسا توقد به النار . إن هذه الصفة الكامنة في الشجر طبيعة مقدورة فيه ، وهي من صنع الله وقدرته ، إذْ خلقَ الأشياءَ وما يُجلِّيها من صفات . والصفة المقصودة هنا هي الاشتغال والتوقد أو الاحتراق . وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة تتجلى فيها قدرة الصانع الحكيم .

وقيل : المراد بذلك شجر المرْخ{[3929]} والعفار{[3930]} ، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه نار فيأخذ منه عودين مثل السِّواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيَسْحَقُ أحدهما الآخر فتتولد النار من بينهما بإذن الله . فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قادر على إحياء الموتى وبعثهم من جديد .


[3929]:المرْخ: شجر سريع الورْي. أي النار. وهو من شجر النار. انظر القاموس المحيط ص 332
[3930]:العَفار: شجر يُتخذ منه الزناد. أو تقدح منه النار. انظر القاموس المحيط ص 568