الأولى- هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة . وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار " قال إن ذاهب إلى ربي " أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه " سيهدين " فيما نويت إلى الصواب . قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة ، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام . وقيل : ذاهب بعملي وعبادتي ، وقلبي ونيتي . فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن . وقد مضى بيان هذا في " الكهف " {[13277]} مستوفى . وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس . وقيل : خرج إلى حران فأقام بها مدة . ثم قيل : قال ذلك لمن فارقه من قومه ، فيكون ذلك توبيخا لهم . وقيل : قاله لمن هاجر معه من أهله ، فيكون ذلك منه ترغيبا . وقيل : قال هذا قبل إلقائه في النار . وفيه على هذا القول تأويلان : أحدهما : إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي . الثاني : إني ميت ، كما يقال لمن مات : قد ذهب إلى الله تعالى ؛ لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار ، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها ، إلى أن قيل لها : " كوني بردا وسلاما " فحينئذ سلم إبراهيم منها . وفي قوله : " سيهدين " على هذا القول تأويلان : أحدهما " سيهدين " إلى الخلاص منها . الثاني : إلى الجنة . وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم : لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب ، فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها . وتقول : اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا ، فلما ذهب به ليطرح في النار " قال إني ذاهب إلى ربي " . فلما طرح في النار قال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فقال الله تعالى : " يا نار كوني بردا وسلاما " [ الأنبياء : 69 ] فقال أبو لوط وكان ابن عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني ، فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه .
ولما كان التقدير : فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد ، عطف عليه قوله : { وقال } أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به : { إني ذاهب } أي مهاجر من غير تردد ، قالوا : وهو أول من هاجر من الخلق { إلى ربي } أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه ، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه .
ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول : من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح ، وما تفعل في التوصل إليه ؟ قال : { سيهدين * } أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها ، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه ، ويسهل لقاصده المجتهد في أمره سبيله ، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية ، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام ، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله{ ولما جاء موسى لميقاتنا }[ الأعراف : 143 ] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله{ سبحان الذي أسرى بعبده }[ الأسراء :1 ] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات : إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً ، ثم أخبر أنه قال { رب أرني } فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء ، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعين جمع الجمع - لأنه لم ينسب إليه قول ولا فعل ، بل هو المراد إلى أن قال { لنريه من آياتنا } فهذا هو الفناء حتى عن الفناء ، ثم قال : { أنه هو السميع البصير } فأثبت له مع ذلك الكمال .
قوله تعالى : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 ) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 ) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( 103 ) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 105 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ( 106 ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( 107 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ( 108 ) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( 109 ) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 110 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 111 ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 112 ) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } .
لما نجّى الله إبراهيم من كيد قومه المشركين الذين أخزاهم الله وأفشل مكرهم وسوء قصدهم قال عليه الصلاة والسلام : إني مهاجر من بلدة قومي إلى الله ، إلى الأرض المقدسة فمفارقهم ومعتزلهم لعبادة الله ، أو إلى حيث أتمكن من عبادة الله . أو إني ذاهب الله بقلبي ونيتي وعملي .
قوله : { سَيَهْدِينِ } أي إلى ما قصدته من الحق والصواب ، أو سيجزيني الجزاء على نيتي وقصدي ويعينني على ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.