الأولى- قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان " هذا جواب القسم ، وأراد بالإنسان : الكافر . قيل : هو الوليد بن المغيرة . وقيل : كلدة بن أسيد . فعلى هذا نزلت في منكري البعث . وقيل : المراد بالإنسان آدم وذريته . " في أحسن تقويم " وهو اعتداله واستواء شبابه ، كذا قال عامة المفسرين . وهو أحسن ما يكون ؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه ، وخلقه هو مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . وقال أبو بكر بن طاهر : مُزيناً بالعقل ، مُؤدياً للأمر ، مَهدياً بالتمييز ، مديد القامة ، يتناول مأكوله بيده . ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن اللّه خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما . وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : [ إن اللّه خلق آدم على صورته ] يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها . وفي رواية [ على صورة الرحمن ] ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني . وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدي قال : أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ، فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني . وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم . فقال جميع من حضر : قد طلقت ، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا . فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم اللّه الرحمن الرحيم : " والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا البلد الأمين . لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه . فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك . وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك . فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه . ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه{[16189]} .
ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا ، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكوراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة ، فتوقع أكمل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته ، أجيب بقوله تعالى محققاً : { لقد خلقنا } أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة { الإنسان } أي هذا النوع الذي جمع فيه الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه ، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }[ البقرة : 30 ] لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة ، فيتولد الفساد من الشهوة ، والسفك من الغضب .
{ في أحسن تقويم * } أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق والخلق بما خص به من انتصاب القامة ، وحسن الصورة ، واجتماع خواص الكائنات ، ونظائر سائر الممكنات ، بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصر والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ، ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به ، وقويناه بقدرتنا لقبول الحق ، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير
{ كان الناس أمة واحدة }[ البقرة : 213 ] في البقرة ، وقال ابن برجان هنا : مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم ، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم ، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان ، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملأوا الأرض علماً وحكمةً ونوراً . قال البغوي : خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل والتمييز - انتهى . والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب ، ومن المعلوم أن المقصود من كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء ، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة ، وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فبعضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد ، فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال ، فكل ميسر لما خلق له ، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه ، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يرديه ، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر ، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر ، فاعتبر ذلك ، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال ، والله الهادي ، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن ، لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم ، قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره ، وصيغة " أفعل " لا تدل على ما قاله الزنادقة ، وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن الدرجة الواحدة تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفراد الإنسان في صوره وألوانه ، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه ، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته : تهديم الأركان من " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان ، وجرت فيه فتن تصم الآذان ، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان ، وقهر أهل الطغيان ، ثم أردفته بكتاب " دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان " ثم شفيت الأسقام ، ودمغت الأخصام ، وخسأت الأوهام بالقول الفارق بين الصادق والمنافق ، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع ، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن ؛ لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته ، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر فيه الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتابه " الإحياء " وغيره ولا سيما كتابه " تهافت الفلاسفة " ، وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة ، وقولهم بأن فعله بالذات ، وبين فساد ذلك ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوتة بالصغر والكبر ، وعلى كل ممكن ، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه ، وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن ، وعرف الممتنع بأنه إثبات الشيء مع نفيه ، وإثبات الأخص مع نفي الأعم ، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد ، وقال : وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن ، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم ، والله الموفق لما يريد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.