إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ} (4)

{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أيْ جنس الإنسانِ { فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أيْ كائناً في أحسنِ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى ، حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ ، متناسبَ الأعضاءِ ، متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا ، وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه : خلقَ آدمَ علَى صورتِه{[854]} وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن ، وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه : «مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه » وقالَ : إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ ، تستعملُه كيفمَا شاءتْ ، فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا ، وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً ، وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ ، فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ ، فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ ، فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أنْ يترقَّى إلى معارجِ معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ، ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ ، يفعلُ فيهِ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبرِ وأنموذجٌ مِنْهُ .


[854]:أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب (1)؛ ومسلم في كتاب البر حديث (115)، وفي كتاب الجنة حديث (28) كما أخرجه أحمد في المسند (2/244، 251، 315، 323).