الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (42)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " قال العلماء : يعني على قلوبهم . وقال ابن عيينة : أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم . وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم . قلت : لعل قائلا يقول : قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله : " فأزلهما الشيطان{[9674]} " [ البقرة : 36 ] ، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله : " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا{[9675]} " [ آل عمران : 155 ] فالجواب ما ذكر ، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول{[9676]} ، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة . ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول ، على ما تقدم في " البقرة " {[9677]} بيانه . وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران{[9678]} . ثم إن قوله سبحانه : " ليس لك عليهم سلطان " يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال ، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة ، كما فعل ببلال ، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا وقالوا : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا ؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس في النوم تفريط ) ففرج عنهم . " إلا من اتبعك من الغاوين " أي الضالين المشركين . أي سلطانه على هؤلاء ، دليله " إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون{[9679]} " [ النحل : 100 ] .

الثانية : وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل ، مثل أن يقول : عشرة إلا درهما . أو يقول : عشرة إلا تسعة . وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه . وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح . ودليلنا هذه الآية ، فإن فيها استثناء " الغاوين " من العباد والعباد من الغاوين ، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز .


[9674]:راجع ج 1 ص 11 و ص 321 و ج 4 ص 243.
[9675]:راجع ج 4 ص 243.
[9676]:في ي: العفو.
[9677]:راجع ج 1 ص 11 و ص 321 و ج 4 ص 243.
[9678]:راجع ج 4 ص 243.
[9679]:راجع ص 175 من هذا الجزء.