الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا} (6)

قوله تعالى : { يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا } فيه أربع مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " يرثني " قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة " يرثني ويرث " بالرفع فيهما . وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما ، وليس هما جواب " هب " على مذهب سيبويه ، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث ، والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا ، أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته ؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث ، فقال : هب لي الذي يكون وارثي ، قاله أبو عبيد ، ورد قراءة الجزم ، قال : لأن معناه إن وهبت ورث ، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه ؟ ! النحاس : وهذه حجة متقصاة{[10788]} ؛ لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة ، تقول : أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة .

الثانية-قال النحاس : فأما معنى " يرثني ويرث من آل يعقوب " فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة ، قيل : هي وراثة نبوة . وقيل : وراثة حكمة . وقيل : هي وراثة مال . فأما قولهم وراثة نبوة فمحال ؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل : الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل . ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن ، وفي الحديث ( العلماء ورثة الأنبياء ) . وأما وراثة المال فلا يمتنع ، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا نورث ما تركنا صدقة ) فهذا لا حجة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع . وقد يؤول هذا بمعنى : لا نورث الذي تركناه صدقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه ، وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " [ الأنفال : 41 ] لأن معنى " لله " ومن سبيل الله ، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا ، فإن قيل : ففي بعض الروايات ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ) ففيه التأويلان جميعا ، أن يكون " ما " بمعنى الذي . والآخر لا يورث من كانت هذه حاله . وقال أبو عمر : واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : ( لا نورث ما تركنا صدقة ) على قولين : أحدهما : وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة . والآخر : أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث ؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته ، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره ، وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول .

الثالثة-قوله تعالى : " من آل يعقوب " قيل : هو يعقوب بن إسرائيل ، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ، ويرجع نسبها إلى يعقوب ؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب ، وزكريا من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب ، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق . وقيل : المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام ؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان ، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل ، قاله مقاتل وغيره . وقال الكلبي : وكان آل يعقوب أخواله ، وهو يعقوب بن ماثان ، وكان فيهم الملك ، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى . وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته ) . ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي .

الرابعة-قوله تعالى : " واجعله رب رضيا " أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله . وقيل : راضيا بقضائك وقدرك . وقيل : رجلا صالحا ترضى عنه . وقال أبو صالح : نبيا كما جعلت أباه نبيا .


[10788]:في ج و ك و ي: مستفيضة.