الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} (4)

قوله تعالى : { قال رب إني وهن العظم مني } فيه مسألتان{[10777]} :

الأولى-قوله تعالى : " قال رب إني وهن العظم مني " " قال رب إني وهن " قرئ " وهن " بالحركات الثلاث أي ضعف . يقال : وَهَن يهِن وَهْنًا إذا ضعف فهو واهن . وقال أبو زيد يقال : وهن يهن ووهن يوهن . وإنما ذكر العظم ؛ لأنه عمود البدن ، وبه قوامه ، وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه . ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر ، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها .

الثانية-قوله تعالى : " واشتعل الرأس شيبا " أدغم السين في الشين أبو عمرو . وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب . والاشتعال انتشار شعاع النار ، شبه به انتشار الشيب في الرأس ، يقول : شخت وضعفت ، وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس . ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام . " وشيبا " في نصبه وجهان : أحدهما : أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب ، وهذا قول الأخفش . وقال الزجاج : وهو منصوب على التمييز . النحاس : قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به . والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود .

الثالثة-قال العلماء : يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع ؛ لأن قوله تعالى : " وهن العظم مني " إظهار للخضوع . وقوله : " ولم أكن بدعائك رب شقيا " إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته ، أي لم أكن بدعائي إياك شقيا ، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك ، أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى . يقال : شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده . وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا ، فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا ، وقضى حاجته .


[10777]:كذا في الأصول إلا أنها ثلاث، غير:ك، ففيها مسألتان.