الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا} (5)

قوله تعالى : { وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا } فيه سبع مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وإني خفت الموالي " قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر " خفت " بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من " الموالي " لأنه في موضع رفع ب " خفت " ومعناه انقطعت بالموت . وقرأ الباقون " خفت " بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من " الموالي " لأنه في موضع نصب ب " خفت " و " الموالي " هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب . والعرب تسمي بني العم الموالي . قال الشاعر{[10778]} :

مَهْلاً بني عمنا مهلا موالينا *** لا تنْبِشوا بيننا ما كان مدفونَا

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد . وقالت طائفة : إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب وليا يقوم بالدين بعده ، حكى هذا القول الزجاج ، وعليه فلم يسل من يرث ماله ؛ لأن الأنبياء لا تورث . وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية ، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ) وفي كتاب أبي داود : ( إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم ) . وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله : " يرثني " .

الثانية-هذا الحديث يدخل في التفسير المسند ؛ لقوله تعالى : " وورث سليمان داود " {[10779]} وعبارة عن قول زكريا : " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وتخصيص للعموم في ذلك ، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده ، وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب ، هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض ، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال : " يرثني " مالا " ويرث من آل يعقوب " النبوة والحكمة ، وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور ، قاله أبو عمر . قال ابن عطية : والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال ، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ) ألا يريد به العموم ، بل على أنه غالب أمرهم ، فتأمله . والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين ، فتكون الوراثة مستعارة . ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه . وقال أبو صالح وغيره : قوله " من آل يعقوب " يريد العلم والنبوة .

الثالثة-قوله تعالى : " من ورائي " قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء . وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي . الباقون بالهمز والمد وسكون الياء . والقراء على قراءة " خفت " مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان . وهي قراءة شاذة بعيدة جدا ، حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز . قال كيف يقول : خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي ؟ ! . النحاس : والتأويل لها ألا يعني بقوله : " من ورائي " أي من بعد موتى ، ولكن من ورائي في ذلك الوقت ، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا ، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا " أيهم يكفل مريم " {[10780]} . ابن عطية : " من ورائي " من بعدي في الزمن ، فهو الوراء على ما تقدم في " الكهف " .

الرابعة-قوله تعالى : " وكانت امرأتي عاقرا " امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل ، وهي أخت حنة بنت فاقوذا ، قاله الطبري . وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في " آل عمران " {[10781]} بيانه . وقال القتبي : امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة . وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه . وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام : ( فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى ) شاهدا للقول الأول{[10782]} . والله أعلم . والعاقر التي لا تلد لكبر سنها ، وقد مضى بيانه في " آل عمران " . والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر . ومنه قوله تعالى : " ويجعل من يشاء عقيما " {[10783]} [ الشورى : 50 ] . وكذلك العاقر من الرجال ، ومنه قول عامر بن الطفيل :

لبئس الفتى إن كنت أعورَ عاقرا *** جبانا فما عذري لدى كل مَحْضَرِ

الخامسة-قوله تعالى : " فهب لي من لدنك وليا " سؤال ودعاء . ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة . قال قتادة : جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة . مقاتل : خمس وتسعين سنة ، وهو أشبه ، فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره ، ولذلك قال : " وقد بلغت من الكبر عتيا " . وقالت طائفة : بل طلب الولد ، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه ، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم ، ولا يتحصل منه الغرض .

السادسة-قال العلماء : دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه ، وإحياء نبوته ، ومضاعفة لأجره لا للدنيا ، وكان ربه قد عوده الإجابة ، ولذلك قال : " ولم أكن بدعائك رب شقيا " ، أي بدعائي إياك . وهذه وسيلة حسنة ، أن يتشفع إليه بنعمه ، يستدر{[10784]} فضله بفضله ، يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله ، فقال له حاتم : من أنت ؟ قال : أنا الذي أحسنت إليه عام أول ، فقال : مرحبا بمن تشفع إلينا بنا . فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن ؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى ، فإنه تعالى قال : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " [ آل عمران : 37 ] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته ، فقال تعالى : " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " {[10785]} [ آل عمران : 38 ] الآية .

السابعة-إن قال قائل : هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد ، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد ، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك ، فقال : " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " {[10786]} [ التغابن : 15 ] . قال : " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " {[10787]} [ التغابن : 14 ] . فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في " آل عمران " بيانه . ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال : ( ذرية طيبة ) وقال : " واجعله رب رضيا " . والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة ، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة . وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال : ( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته ) فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة . وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده ، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء ، وقد تقدم في " آل عمران " بيانه .


[10778]:هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية.
[10779]:راجع جـ 13 ص 163.
[10780]:راجع ص 34 وما بعدها من هذا الجزء.
[10781]:راجع جـ 4 ص 85 وص 79.
[10782]:المراد بالقول الأول هنا قول القتبي.
[10783]:راجع جـ 16 من 48.
[10784]:في أ و جـ: ويسأله.
[10785]:راجع جـ 4 ص 72 فما بعد.
[10786]:راجع جـ 18 ص 140 فما بعد.
[10787]:من جـ و ك و ي.