الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (131)

العامل في { إذ } قوله : { اصطفيناه } أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم . وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس . قال ابن كيسان والكلبي : أي أخلص دينك لله بالتوحيد . وقيل : اخضع واخشع . وقال ابن عباس : إنما قال له ذلك حين خرج من السرب{[1231]} ، على ما يأتي ذكره في " الأنعام{[1232]} " . والإسلام هنا على أتم وجوهه . والإسلام في كلام العرب : الخضوع والانقياد للمستسلم . وليس كل إسلام إيمانا ، وكل إيمان إسلام ، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله . وليس كل من أسلم آمن بالله ، لأنه قد يتكلم فزعا{[1233]} من السيف ، ولا يكون ذلك إيمانا ، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا : إن الإسلام هو الإيمان ، فكل مؤمن مسلم ، وكل مسلم مؤمن ، لقوله : { إن الدين عند الله الإسلام{[1234]} } [ آل عمران : 19 ] فدل على أن الإسلام هو الدين ، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن . ودليلنا قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا{[1235]} } [ الحجرات : 14 ] الآية . فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا ، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له : اعط فلانا فإنه مؤمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو مسلم ) الحديث ، خرجه مسلم ، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر ، وهذا بين . وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه ، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته ، فاعلمه . وبالله التوفيق .


[1231]:السرب (بالتحريك): الحفير، وبيت تحت الأرض.
[1232]:راجع 7 ص 24
[1233]:في ج: "فرقا"
[1234]:راجع ج 4 ص 43
[1235]:راجع ج 16 ص 348