الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

قوله تعالى : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } أي صيرنا ، و " مسلمين " مفعول ثان ، سألا التثبيت والدوام . والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ، ومنه قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام{[1206]} } [ آل عمران : 19 ] ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين{[1207]} }

[ الذاريات : 35 - 36 ] . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي " مسلمين " على الجمع .

قوله تعالى : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } أي ومن ذريتنا فاجعل ، فيقال : إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة . و{ من } في قوله : { ومن ذريتنا } للتبعيض ؛ لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى الطبري : أنه أراد بقوله :

{ ومن ذريتنا } العرب خاصة . قال السهيلي{[1208]} : وذريتهما العرب ، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل ، أو بنو تيمن بن إسماعيل ، ويقال : قيدر بن نبت بن إسماعيل . أما العدنانية فمن نبت ، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم . والأمة : الجماعة هنا ، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتا{[1209]} لله } [ النحل : 120 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل : " يبعث أمة وحده " لأنه لم يشرك في دينه غيره ، والله أعلم . وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى : { إنا وجدنا آبائنا على أمة{[1210]} } [ الزخرف : 22 ] أي على دين وملة ، ومنه قوله تعالى : { إن هذه أمتكم أمة واحدة{[1211]} } [ الأنبياء : 92 ] . وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى :{ وادكر بعد أمة{[1212]} } [ يوسف : 45 ] أي بعد حين وزمان . ويقال : هذه أمة زيد ، أي أم زيد . والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة ، قال{[1213]} :

وإن معاوية الأكرمي *** ن حسانُ الوجوه طِوالُ الأُمَمْ

وقيل : الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم .

قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } ، { أرنا } من رؤية البصر ، فتتعدى إلى مفعولين ، وقيل : من رؤية القلب ، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل . قال ابن عطية : وينفصل{[1214]} بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [ كغير المعدى ]{[1215]} . قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر : أريني جوادا مات هَزْلاً لأنني{[1216]} *** أرى ما ترين أو بخيلا مُخَلَّدَا

وقرأ عمر بن عبدالعزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي " أرنا " بسكون الراء في القرآن ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء ، والباقون بكسرها ، واختاره أبو عبيد . وأصله أرئنا بالهمز ، فمن قرأ بالسكون قال : ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها ، واستدل بقول الشاعر : أَرْنا إداوة عبدالله نملؤها *** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء ، وأبو عمر وطلب الخفة . وعن شجاع بن أبي نصر{[1217]} وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين : هذا ، والآخر " ما ننسخ من آية أو ننسأها " [ البقرة : 106 ] مهموزا .

قوله تعالى : { مناسكنا } يقال : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا .

واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا ، فقيل : مناسك الحج ومعالمه ، قاله قتادة والسدي . وقال مجاهد وعطاء وابن جريج : المناسك المذابح ، أي مواضع الذبح . وقيل : جميع المتعبدات . وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منْسَك ومنسِك . والناسك : العابد . قال النحاس : يقال نسك ينسك ، فكان يجب أن يقال على هذا : منسك ، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل . وعن زهير بن محمد قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال : أي رب ، قد فرغت فأرنا مناسكنا ، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به ، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس ، فقال له : احصبه ، فحصبه بسبع حصيات ، ثم الغد ثم اليوم الثالث ، ثم علا ثبيرا{[1218]} فقال : يا عباد الله ، أجيبوا ، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال : لبيك ، اللهم لبيك ، قال : ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا ، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها . وأول من أجابه أهل اليمن . وعن أبي مجلز قال : لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت - قال : وأحسبه قال : " والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فرمى وكبر ، وقال لإبراهيم : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتى به جمعا{[1219]} فقال : ههنا يجمع الناس الصلوات . ثم أتى به عرفات فقال : عرفت ؟ فقال نعم ، فمن ثم سمي عرفات . وروي أنه قال له : عرَفْت ، عرفتَ ، عرفت ؟ أي منى والجمع وهذا ، فقال نعم ، فسمي ذلك المكان عرفات . وعن خصيف بن عبدالرحمن أن مجاهدا حدثه قال : لما قال إبراهيم عليه السلام : { وأرنا مناسكنا } أي الصفا والمروة ، وهما من شعائر الله بنص القرآن ، ثم خرج به جبريل ، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها ، فقال له جبريل : كبر وارمه ، فارتفع إبليس إلى الوسطى ، فقال جبريل : كبر وارمه ، ثم في الجمرة القصوى كذلك . ثم انطلق به إلى المشعر الحرام ، ثم أتى به عرفة فقال له : هل عرفت ما أريتك ؟ قال نعم ، فسميت عرفات لذلك فيما قيل ، قال : فأذن في الناس بالحج ، قال : كيف أقول ؟ قال قل : يا أيها الناس ، أجيبوا ربكم ، ثلاث مرار ، ففعل ، فقالوا : لبيك ، اللهم لبيك . قال : فمن أجاب يومئذ فهو حاج . وفي رواية أخرى : أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه ، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب ، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته . وقال محمد بن إسحاق : لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له : طف به سبعا ، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام ، يستلمان الأركان كلها في كل طواف ، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين . قال : فقام جبريل فأراه المناسك كلها : الصفا والمروة ومنى والمزدلفة . قال : فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس . . . . فذكر نحو ما تقدم . قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام . وقال : حج إسحاق وسارة من الشام ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق ، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم . وروى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر " . وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم . وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود . وقال عبدالله بن ضمرة السلولي : ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين .

قوله تعالى : { وتب علينا } اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام : { وتب علينا } وهم أنبياء معصومون ، فقالت طائفة : طلبا التثبيت والدوام ، لا أنهما كان لهما ذنب .

قلت : وهذا حسن ، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل : المعنى وتب على الظلمة منا . وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء{[1220]} عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام . وتقدم القول في معنى قوله : { إنك أنت التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] فأغنى عن{[1221]} إعادته .


[1206]:راجع ج 4 ص 43
[1207]:راجع ج 17 ص 48
[1208]:اضطربت الأصول في ذكر كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبرا أولاد إسماعيل (ص 351 قسم أول)، وابن الأثير (ج 1 ص 88) وابن هشام في سيرته (ص 4) طبع أوربا، فيراجع.
[1209]:راجع ج 10 ص 197
[1210]:راجع ج 16 ص 74
[1211]:راجع ج 11 ص 338
[1212]:راجع ج 9 ص 201
[1213]:القائل هو الأعشى، كما في اللسان.
[1214]:قال أبو حيان في البحر: "وقوله: ينفصل... الخ. يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى اثنين ومعه همزة النقل كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة"
[1215]:زيادة عن ابن عطية.
[1216]:ويروى "لعلى" ولأن بمعنى لعل.
[1217]:في ا، ب، ز: "أبي نصرة" وفي ج، ح: أبي بصرة". والتصويب عن القراء وتهذيب التهذيب.
[1218]:ثبير: جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الذاهب إلى مكة.
[1219]:جمع (بفتح فسكون) المزدلفة.
[1220]:يراجع ج 1 ص 308 طبعة ثانية.
[1221]:يراجع ج 1 ص 325 طبعة ثانية.