غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (131)

127

ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل { اصطفينا } في { إذ قال } أي اخترناه في ذلك الوقت ، ويجوز أن ينتصب بإضمار " اذكر " استشهاداً على ما ذكر من حاله كأنه قيل له : اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله { إذ قال له ربه } من باب الالتفات ، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له ، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له أسلم ، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه . ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال ، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم " نطق الحال " قال تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون }

[ الروم : 35 ] فجعل دلالة البرهان كلاماً ، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان . وقيل : الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح . وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب ، وطريق عرفان محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] والأول طريق حسن { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] لكن الطريق الثاني أحسن { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى الله عليه وسلم .

وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم يستطعه الأوائل

فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته ، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة . وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 31 ] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة { إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] تركيب الخلة { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } [ النساء : 125 ] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر { وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] اسم الشدة { والكافرون لهم عذاب شديد } [ الشورى : 26 ] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً }

[ النحل : 123 ] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله ، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، أول الفكر آخر العمل " أول ما خلق الله تعالى نوري ، أنا أول من ينشق عنه قبر ، آدم ومن دونه تحت لوائي ، أنا سيد المرسلين ولا فخر " محمد صلى الله عليه وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة ، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة ، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعاً للصلاة على محمد " اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم " وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره .

/خ134