البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (131)

{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } : هذا من الالتفات ، إذ لو جرى على الكلام السابق ، لكان : إذ قلنا له أسلم ، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله :

باتت تشكي إليّ النفس مجهشة *** وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا

والعامل في إذ : قال أسلمت .

وقيل : ولقد اصطفيناه ، أي اخترناه في ذلك الوقت ، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله : في الدنيا ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله : ولقد اصطفيناه ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه ، وقيل : محذوف تقديره أذكر .

وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة ، يبقى قوله : قال أسلمت ، لا ينتظم مع ما قبله ، إلا إن قدر ، يقال : فحذف حرف العطف ، أو جعل جواباً لكلام مقدّر ، أي ما كان جوابه ؟ قال : أسلمت .

وهل القول هنا على بابه ، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب ؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام ؟ فجعلت الدلالة قوماً على سبيل المجاز ، وإذا حمل على القول حقيقة ، فاختلفوا متى قيل له ذلك .

فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة ، وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية ، وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه ، قال تعالى له أسلم .

وقيل : كان بعد النبوّة ، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة ، إذ هو متحل به وقت الأمر ، ويكون الإسلام هنا على بابه ، والمعنى : على شريعة الإسلام .

وقيل : الإسلام هنا غير المعروف ، وأول على وجوه ، فقال عطاء : معناه سلم نفسك .

وقال الكلبي وابن كيسان : أخلص دينك .

وقيل : اخشع واخضع لله .

وقيل : اعمل بالجوارح ، لأن الإيمان هو صفة القلب ، والإسلام هو صفة الجوارح ، فلما كان مؤمناً بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح ، وفي قوله : أسلم ، تقدير محذوف ، أي أسلم لربك .

وأجاب بأنه أسلم الرب العالمين ، فتضمن أنه أسلم لربه ، لأنه فرد من أفراد العموم ، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص ، لذلك عدل عن أن يقول : أسلمت لربي ، ومن كان رباً للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين .

/خ131