الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{دُحُورٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ وَاصِبٌ} (9)

" دحورا " مصدر لأن معنى " يقذفون " يدحرون . دحرته دحرا ودحورا أي طردته . وقرأ السلمي ويعقوب الحضرمي " دحورا " بفتح الدال يكون مصدرا على فعول . وأما الفراء فإنه قدره على أنه اسم الفاعل . أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء ، والكوفيون يستعملون هذا كثير كما أنشدوا{[13240]} :

تمرون الديارَ ولم تعُوجُوا

واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث ، أو بعده لأجل المبعث على قولين . وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة [ الجن ] عن ابن عباس . وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال : إن الذين قالوا لم تكن الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم رميت ؛ أي لم تكن ترمى رميا يقطعها عن السمع ، ولكنها كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا ، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب . ولعل الإشارة بقوله تعالى : " ويقذفون من كل جانب . دحورا ولهم عذاب واصب " إلى هذا المعنى ، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبا . وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس ، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره ، ويَسلَم واحد ولا يَسلَم غيره ، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل . فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حفظ السماء ، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل ؛ ليدحروا عن جميع جوانب السماء ، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها ؛ فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها ، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة ، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه ، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة . فإن قيل : إن هذا القذف إن كان لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب : أنه دام بدوام النبوة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة فقال : ( ليس منا من تكهن ) فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها ، وعادت الكهانة . ولا يجوز ذلك بعد أن بطل ، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين ، ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة ، فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام ، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله . " ولهم عذاب واصب " أي دائم ، عن مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس : شديد . الكلبي والسدي وأبو صالح : موجع ، أي الذي يصل وجعه إلى القلب ، مأخوذ من الوصب وهو المرض .


[13240]:الزيادة من إعراب القرآن للنحاس. والبيت لجرير وتمامه: * كلامكم علي إذن حرام*