فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{دُحُورٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ وَاصِبٌ} (9)

{ دحورا } مطرودين مبعدين .

{ واصب } دائم .

{ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب( 6 )وحفظا من كل شيطان مارد( 7 )لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب( 8 )دحورا ولهم عذاب واصب( 9 )إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب( 10 ) } .

خالق السماوات والأرض وما بينهما ، وخالق كل شيء ومليكه ومدبره ، وولي مطالع الكواكب من حيث يبدو رأي العين جهة ظهورها ، هو الذي زين السماء الدنيا القريبة منا بالكواكب تستضيء الأرض بها وتزدان السماء ، كما جاء في قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين . . }{[3894]} ؛ وكذا الآيات الكريمة : { ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم }{[3895]} ؛ وكأن التقدير وحفظناها حفظا من كل جني عات متمرد ، بعد عن الحق ، وتعرى عن الخيرات ؛ لئلا يصلوا إلى حيث قد يتسنى لأحدهم أن يستمع إلى حديث السماء ومن فيها من سكانها الملائكة ، وهم الجمع العلوي من الخلق في مقابلة العالم السفلي سكان الأرض ، ويرمون ويرجمون من أي صوب وناحية من السماء يتجهون حيالها ابتغاء استراق السمع ، فيظلون ممنوعين منها مطرودين مدفوعين عنها ، ولهم عذاب دائم مقيم ؛ وهو كما قال ربنا جل ثناؤه : { . . وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير }{[3896]} ؛ إلا من اختطف من الشياطين الكلمة يسمعها من السماء فإن لهبا من السماء ينقض عليه يتوقد فيحرقه . مما في صحيح مسلم-رحمه الله- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : . . . انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهووا بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا . . { إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بعبادة بربنا أحدا ){[3897]} فأنزل الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن . . }{[3898]} " ، [ وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس ، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره ، ويسلم واحد ولا يسلم غيره ، بل يقبض عليه ويعاقب وينكّل ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حفظ السماء ، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل ، ليدحروا عن جميع جوانب السماء ، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها . . .

وروي في هذا الباب أحاديث صحاح ، مضمنها : أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ، فتقعد للسمع واحدا فوق واحد ، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ، فيقضي الله تعالى الأمر من أمر الأرض ، فيتحدث به أهل السماء ، فيسمعه منهم الشيطان الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب ، وقد ألقى الكلام ، وربما لم يحرقه . . فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان ، فيكون معها مائة كذبة ، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع . . . فلما جاء الله بالإسلام حرست السماء بشدة ، فلا يفلت شيطان سمع بتة . ]{[3899]} .


[3894]:سورة الملك.من الآية 5.
[3895]:سورة الحجر.الآيتان: 16، 17.
[3896]:سورة الملك من الآية 5.
[3897]:سورة الجن.من الآية 1، والآية 2.
[3898]:سورة الجن.من الآية 1.
[3899]:ما بين العلامتين[ ]مما أورد القرطبي.