الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

فيه مسألتان :

الأولى - قوله تعالى : " وأقسموا " أي حلفوا . وجهد اليمين أشدها ، وهو بالله . فقوله : " جهد أيمانهم " أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم ، وانتهت إليها قدرتهم . وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم ، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى ، كما أخبر عنهم بقوله تعالى : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{[6639]} " [ الزمر : 3 ] . وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك ، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله . " جهد " منصوب على المصدر والعامل فيه " أقسموا " على مذهب سيبويه ؛ لأنه في معناه . والجهد ( بفتح الجيم ) : المشقة يقال : فعلت ذلك بجهد . والجهد ( بضمها ) : الطاقة يقال : هذا جهدي ، أي طاقتي . ومنهم من يجعلهما واحدا ، ويحتج بقول " والذين لا يجدون إلا جهدهم{[6640]} " [ التوبة : 79 ] . وقرئ " جهدهم " بالفتح ، عن ابن قتيبة . وسبب الآية فيما ذكر المفسرون : القرظي والكلبي وغيرهما ، أن قريشا قالت : يا محمد ، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك . فقال : ( أي شيء تحبون ) ؟ قالوا : أجعل لنا الصفا ذهبا ، فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون . فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو ، فجاءه جبريل عليه السلام فقال : ( إن شئت أصبح الصفا{[6641]} ذهبا ، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فاتركهم حتى يتوب تائبهم ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بل يتوب تائبهم ) فنزلت هذه الآية . وبين الرب{[6642]} بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنن .

الثانية - قوله تعالى : " جهد أيمانهم " قيل : معناه بأغلظ الأيمان عندهم . وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى ، وهي قول الرجل : الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا . قال ابن العربي : وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة ، كانوا يقولون : على أشد ما أخذه أحد على أحد ، فقال مالك : تطلق نساؤه . ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها . وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول : يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها ؛ لأن قوله " الإيمان " جمع يمين ، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة . ولو قال : علي يمينان للزمته{[6643]} كفارتان إذا حنث . والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات .

قلت : وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه : اختلف شيوخ القيروان فيها ، فقال أبو محمد بن أبي زيد : يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات ، والمشي إلى مكة ، وتفريق ثلث ماله ، وكفارة يمين ، وعتق رقبة . قال ابن مغيث : وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة . وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي : تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية . ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله : " وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين " . قال ابن مغيث : فجعل{[6644]} من سميناه على القائل : " الأيمان تلزمه " طلقة واحدة ؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله : أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين ، قال :{[6645]} وبه نقول . قال : واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال : علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله ، فقال : إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات . فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله : علي عهد الله وغليظ ميثاقه . ويعتق رقبة وتطلق نساؤه ، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله : وأشد ما أخذه على أحد . قال ابن العربي : أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد ، فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك " بالله " فيكون ما قاله الفهري . فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده ، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد ، فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له ، إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا . والله أعلم .

قوله تعالى : " قل إنما الآيات عند الله " أي قل يا محمد : الله القادر على الآتيان بها ، وإنما يأتي بها إذا شاء . " وما يشعركم " أي وما يدريكم أيمانكم ، فحذف المفعول . ثم استأنف فقال : " إنها إذا جاءت لا يؤمنون " بكسر إن ، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير . ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود " وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون " . وقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بهذا المشركون ، وتم الكلام . حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون . وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ " تؤمنون " بالتاء . وقال الفراء وغيره : الخطاب للمؤمنين ؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون ؛ فقال الله تعالى : " وما يشعركم " أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون . " أنها " بالفتح ، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة ، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . قال الخليل : " أنها " بمعنى لعلها ، وحكاه عنه سيبويه . وفي التنزيل : " وما يدريك لعله يزكى{[6646]} " [ عبس : 3 ] أي أنه يزكى . وحكي عن العرب : ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي لعلك . وقال أبو النجم :

قلت لشيبان ادنُ من لقائه *** أنّ تُغدِّى القوم من شِوَائِهْ

وقال عدي بن زيد :

أعاذلَ ما يدريك أنّ منيتي *** إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضُحى الغد

أي لعل . وقال دريد بن الصمة{[6647]} :

أريني جوادا مات هزْلاً لأنني *** أرى ما ترين أو بخيلا مُخَلَّدَا

أي لعلني{[6648]} . وهو في كلام العرب كثير " أن " بمعنى لعل . وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب " وما أدراكم لعلها " . وقال الكسائي والفراء : أن " لا " زائدة ، والمعنى : وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون ، فزيدت " لا " ؛ كما زيدت " لا " في قوله تعالى : " حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون{[6649]} " [ الأنبياء : 95 ] . لأن المعنى : وحرام على قرية مهلكة رجوعهم . وفي قوله : " ما منعك ألا تسجد{[6650]} " [ الأعراف : 12 ] . والمعنى : ما منعك أن تسجد . وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة " لا " وقالوا : هو غلط وخطأ ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل . وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، ثم حذف هذا لعلم السامع . ذكره النحاس وغيره .


[6639]:راجع ج 15 ص 123.
[6640]:راجع ج 8 ص 215.
[6641]:من ك.
[6642]:في ك: بين الله.
[6643]:في ك، ز: ألزمناه كفارتين.
[6644]:في ك: فحمل.
[6645]:من ز.
[6646]:راجع ج 19 ص 211.
[6647]:الصحيح أنه حاتم طيء. كما في الصحاح للجوهري، وديوانه. ويروى : لعلني: فلا شاهد.
[6648]:في هنخ ب، وز ما نصه: ذرني أطوف في البلاد لأنني الخ.
[6649]:راجع ج 11 ص 340.
[6650]:راجع ص 169 و ص 390 من هذا الجزء.