لطائف الإشارات للقشيري - القشيري [إخفاء]  
{سَيَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَاۚ يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢاۚ بَلۡ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرَۢا} (11)

قوله جلّ ذكره : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسٍنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } .

لمَّا قَصَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّفَ قومٌ من الأعراب عنه . قيل : هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع ، وقالوا : { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } وليس لنا مَنْ يقوم بشأننا وقالوا : انتظروا ماذا يكون ؛ فما هم من قريش إلاَّ أكَلَهُ رأسٍ . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه مُعْتَذِرين بأنه لم يكن لهم أحدٌ يقوم بأَمورهم ! وقالوا : استغفر لنا .

فأطلعه الله – سبحانه - على كذبهم ونفاقهم ؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصاً ، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .

قوله جلّ ذكره : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا } .

فضَحَهم . ويقال : ما شغل العبد عن الله شُؤمٌ عليه .

ويقال : عُذْرُ المماذِقِ وتوبةُ المنافِق كلاهما ليس حقائق .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{سَيَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَاۚ يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢاۚ بَلۡ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرَۢا} (11)

{ سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب } قال مجاهد . وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الأعراب هم جهينة . ومزينة . وغفار . وأشجع . والديل . وأسلم استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ليخرجوا معه حذراً من قريش أني عرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عدداً عظيماً من قريش . وثقيف . وكنانة . والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا وقالوا : نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا : لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك ، و { المخلفون } جمع مخلف ، قال الطبرسي : هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم ، و { الاعراب } في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك { شَغَلَتْنَا } عن الذهاب معك { أموالنا وَأَهْلُونَا } إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع ، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال .

وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان { شَغَلَتْنَا } بتشديد الغين المعجمة للتكثير { فاستغفر لَنَا } الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان ، وهو كناية عن كذبهم ، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلاً من { سَيَقُولُ } غير ظاهر ، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام ، وكذا راجع لما تضمنه { أَسْتَغْفِرُ } الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلى الله عليه وسلم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم ، أو تسمية ذلك كذباً ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أمر له صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل ، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم ، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجيب إذا شددت عجنته ، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولاً تاماً ، وإذا قلت : لا أملك كان نفياً للاستطاعة والطاقة إمساكاً ومنعاً ، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم الخ ، واللام من { لَكُمْ } إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم ، و { مِنَ الله } حال من النكرة أعني شيئاً مقدمة ، وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازاً عنه أو مضمناً إياه واللام زائدة كما في { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] و { مِنْ } متعلقة بيملك كما قيل ، والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف .

وقرأ حمزة . والكسائي { ضَرّا } بضم الضاد وهو لغة فيه ، وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذراً فلا ذاك يدفع الضر إن أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً ، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديداً بقوله تعالى : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بكل ما تعملونه { خَبِيراً } فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك .

ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه : { بَلْ ظَنَنْتُمْ } إلى قوله تعالى : { بُوراً } وفي الانتصاف أن في قوله تعالى : { فَمَن يَمْلِكُ } [ الفتح : 11 ] الخ لفاً ونشراً والأصل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو من يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح } [ المائدة : 17 ] { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] { فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } [ الأحقاف : 8 ] ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث : " إني لا أملك لكم شيئاً " يخاطب عشيرته وأمثاله كثير ، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة ؛ وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى : { قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ الأحزاب : 17 ] فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة ، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى ، والوجه ما ذكرناه أولاً في الآية ، وفي تسمية مثل هذا لفاً ونشراً نظر ، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع ، وقال شيخ الإسلام أبو السعود : المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ الفتح : 11 ] فإنه إضراب عما قالوه وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى ، وهو كلام أو هي من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة ، والظاهر أن كلاً من الإضرابات الثلاثة مقصودة .

ومن باب الاشارة : { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون } المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الامارة { مّنَ الاعراب } من سكان بوادي الطبيعة { شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا } العوائق والعلائق { فاستغفر لَنَا } اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عنا ليتأتى لنا السير { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها :

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم *** وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئاً { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً } [ الفتح : 11 ] فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{سَيَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَاۚ يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢاۚ بَلۡ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرَۢا} (11)

قوله تعالى : { سيقول لك المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعلمون خبيرا 11 بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا 12 ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا 13 ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما } .

يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يبديه له المنافقون الأعراب من المصانعة والمداهنة ، وهم في الحقيقة يكنون في أنفسهم النفاق والضغينة لرسول الله ولدينه وللمؤمنين . وهم لتحقيق بغيتهم الفاسدة لا يعبأون بحلف الأيمان الفاجرة على سبيل التقية والتكلف بالظهور بمظهر الصادقين الأوفياء ، والله يشهد لنبيه وللمؤمنين بأن هؤلاء منافقون مخادعون .

وذلكم هو قوله : { سيقول لك المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا } المراد بالأعراب ، الذين كانوا حول المدينة ، كغفار ومزينة وجهينة وغيرهم . فقد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح بعد أن استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش . وكان عليه الصلام والسلام قد أحرم بعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يبغي من سفره هذا حربا أو قتالا . لكن الأعراب من حول المدينة قد تثاقلوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطنعوا لأنفسهم المعاذير متعللين بها لعدم الخروج وهو قوله : { شغلتنا أموالنا وأهلونا } تعللوا بانشغالهم في الأهل والأموال زاعمين أنه ليس لهم من يقوم بهم إذا خرجوا من المدينة { فاستغفر لنا } يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسغفر لهم الله . وليس ذلك منهم على سبيل الاعتقاد واليقين أو الخوف من الله . بل على سبيل التّقية والمصانعة والنفاق ، فهم يخفون في أنفسهم غير ما تبديه ألسنتهم . وهو قوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } لا جرم أنهم منافقون مخادعون كاذبون ، يظهرون خلاف ما يبطنون ، والله جلا وعلا عليم بأسرارهم وحقيقة أخبارهم وما تنطوي عليه صدورهم فكشفهم حتى افتضح أمرهم .

قوله : { قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا } يعني : فمن يمنعكم من الله إن أراد بكم خيرا أو شرا ، أو أراد بكم نصرا أو هزيمة . فليس فراركم أو تخلفكم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمنجّيكم مما هو مكتوب لكم في قدر الله . فليس من أحد بقادر على رد ما أراده الله لكم من حياة أو موت ، أو من نجاة أو هلاك .

قوله : { بل كان الله بما تعملون خبيرا } ذلك رد لما أظهروه من رقيق الكلام ولما تكلفوه من لين الحديث المصطنع ، فقد كشف الله حقيقتهم إذ بين لهم أنه يعلم ما تخفيه صدورهم ويعلم حقيقة أمرهم وأفعالهم ومقاصدهم .