ويوجهه إلى التطهر : ( وثيابك فطهر ) . . وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل . . طهارة الذات التي تحتويها الثياب ، وكل ما يلم بها أو يمسها . . والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى . كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة . وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذاروالتبليغ ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب ؛ وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب ، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث ، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس . . وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط ، وشتى البيئات ، وشتى الظروف ، وشتى القلوب !
{ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال فلان طاهر الثياب نقي الذيل والأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ويقال فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر :
ويحيى ما يلام بسوء خلق *** ويحيى طاهر الأثواب حر
لا هم أن عامر بن جهم *** أو ذم حجا في ثياب دسم
وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في هذه الآية الكريمة . أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلاناً لدنس الثياب وإذا وفي وأصلح قالوا إن فلاناً لطاهر الثياب وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عنى نفسه وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي وأخرج هو أيضاً وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وثيابك فطهر أي من الإثم وفي رواية من الغدر أي لا تكن غداراً وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وثيابك فطهر فقال لا تلبسها على غدرة ولا فجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة :
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع
ونحوه عن الضحاك وابن جبير عن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة .
فشككت بالرمح الطويل ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرم
وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كني بالثياب عن القلب كما في قول امرىء القيس :
فإن تك قد ساءتك مني خليقة *** فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل كني بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلاً ركبها قوم وذهبوا بها :
رموها بأثواب خفاف فلا نرى *** لها شبهاً إلا النعام المنفرا
وطهارة الجسم قد يراد بها أيضاً نحو ما تقدم . ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمراً باستكمال القوة القوة العلمية بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه وقيل أنه أمر له صلى الله عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة والسلام بتخصيصه ربه عز وجل بالتكبير الذي ربما يوهم آباءه خفض الجناح لما سواه عز وجل واقتضاءه عدم المبالاة والاكتراث بمن كان فضلاً عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر وقيل الثياب كناية عن النساء كما قال تعالى { هن لباس لكم } [ البقرة : 187 ] وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه : { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤهن في القبل لا في الدبر وفي الطهر لا في الحيض حكاه ابن بحر وأصل القول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح بذلك وذهب جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين أي اغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات وقيل ألقى عليه صلى الله عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزيناً فتدثر فقيل له : { يأَيُّهَا المدثر قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعنك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } عن أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته وقال أمر عليه الصلاة والسلام بالتنظيف وقت الاستنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضاً عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضاً أمر له عليه الصلاة والسلام برفض عادات العرب المذمومة فقد كانت عادتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر :
ثم راحوا عبق المسك بهم *** يلحفون الأرض هداب الأزر
وفي الحديث «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار » واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيراً ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات ومن الناس من جعل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمراً له صلى الله عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولاً واعتقاداً فكأنه قيل وربك فكبر وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل وجوز أن يراد بالتطهير إزالة ما يستقذر مطلقاً سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمراً له صلى الله عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره من كل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا كان صلى الله عليه وسلم أنظف الناس ثوباً وبدناً وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضاً الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل .
قوله : { وثيابك فطهر } اختلف أهل التأويل في المراد بتطهير ثيابه . فقد قيل : لا تلبسها على معصية . أو طهرها من المعاصي والذنوب وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات . يقال : فلان طاهر الثياب إذا وصف بالنقاء من المعايب والأدناس . وقيل : المراد طهارة الثياب من النجاسات . فطهارة الثياب شرط في صحة الصلاة وهي لا تصح إلا بها . وخليق بالمسلم الصادق أن يكون نقي الجسد والثياب ، نظيفا ، إن لم يكن أنظف من غيره من غير المسلمين . وما يليق بالمسلم أن يحمل في ثيابه أو بدنه الخبث أو النجاسة . فيكون المعنى بذلك : اغسلها بالماء ونقّها من الأدران وطهرها من النجاسة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على غدرة... ابن عباس يقول:"وَثِيابَكَ فَطَهّرْ "قال: من الإثم... [وعنه]: من الذنوب... عن عامر وعطاء قالا: من الخطايا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تلبس ثيابك من مكسب غير طيب..
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أصلح عملك.
وقال آخرون: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: اغسلها بالماء، وطهرها من النجاسة.
قال ابن زيد، في قوله: "وَثِيابَكَ فَطَهّرْ" قال: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر، ويطهّر ثيابه.
وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه، والذي قاله ابن عباس وعكرِمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به: جسمك فطهر من الذنوب، والله أعلم بمراده من ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جائز أن يكون أريد بالثياب نفسه، فتأويله، والله أعلم، أن طهر خلقك وأفعالك عما تُذم عليه.
وجائز أن يكون أريد به الثياب، فيكون قوله: {وثيابك فطهر} متوجها إلى التطهير من النجاسة وإلى التطهير من الأدناس.
وأما التطهير من الأدناس فجائز أن يؤمر به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه كان مأمورا بتبليغ الرسالة إلى الخلق، فندب إلى تطهير ثيابه من الدنس لئلا يُستقذر، بل ينظر إليه بعين التبجيل والعظمة. وليس هذا على تطهير الثياب خاصة، بل أمر أن يطهر جميع ما يقع له به التمتع من المأكل والمشرب والملبس وغيرها، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة..
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويوجهه إلى التطهر: (وثيابك فطهر).. وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل.. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلم بها أو يمسها.. والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى. كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة. وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب؛ وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس.. وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط، وشتى البيئات، وشتى الظروف، وشتى القلوب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هو في النظم مثل نظم {وربّك فكبر} [المدثر: 3] أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة:
فشكَكْت بالرمح الأصم ثيابه...،كناية عن طعنه بالرمح.
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً} [الأحزاب: 33].
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي « إِن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب.
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على {وربَّك فكبر} لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه.