في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (28)

وهكذا صدقت رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتحقق وعد الله . ثم كان الفتح في العام الذي يليه . وظهر دين الله في مكة . ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد . ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول :

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .

فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية " أندونيسيا " . . وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .

وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !

وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . . ( وكفى بالله شهيدا ) . .

فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .

ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (28)

قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس مرشدا ومعلما ليهديهم سواء السبيل وليستنقذهم من ظلمة الباطل والضلال إلى نور الحق والهداية واليقين { ودين الحق } وهو الإسلام ، الدين الذي جاء بالحق وفيه من عظيم الأحكام والمعاني والعبر ، ومن حقائق العدل والخير والبر والفضل والرحمة ما تستقيم عليه حال البشرية في هذه الدنيا ، وما تنجو به يوم الحساب .

قوله : { ليظهره على الدين كله } أي ليعليه على سائر الأديان في الأرض وعلى الأمم والشعوب كافة . والله جل وعلا إنما يريد بذلك للبشرية الخير والأمن والهداية والسعادة . وهذه حقائق كبريات ليس لها وجود حقيقي معاين إلا في ظل الإسلام ، فإنه الدين السماوي الوحيد الذي يشيع في الدنيا المن والحق والعدل والرحمة ، ليكون الناس جميعا إخوانا مؤتلفين متوادين متعاونين . وذلك بما بني عليه الإسلام من قواعد عظيمة في غاية الكمال والجمال ، ترسخ في الأرض كل معاني الخير والصلاح والسعادة ، وتثير في النفس البشرية الإحساس الرهيف بالعطف والرأفة والإيثار وحب الآخرين .

والناس في ظل غير الإسلام لا يبرحهم الشقاء والتعس ولا تفارقهم المعضلات النفسية والاجتماعية ، الفردية منها والعامة ، وما ينشأ عن ذلك من مختلف الآلام والهموم والويلات وألوان المعاناة والأزمات وكل ذلك إنما يقع في معزل عن دين الإسلام . دين المودة والرحمة والبر والتعاون والإيثار . الدين الذي يمحو من النفس الكراهية والغلظة والأثرة ( الأنانية ) والتعصب . من أجل ذلك كتب الله أن يكون الإسلام ظاهرا ومهيمنا على الأديان وعلى الناس أجمعين ليكونوا بذلك سعداء آمنين راغدين غير ظالمين ولا مظلومين ، وقد حفتهم من الله الرحمة والبركة والطمأنينة وطيب المقام في الدنيا والآخرة .

قوله : { وكفى بالله شهيدا } الباء حرف جر زائد . و { شهيدا } منصوب على التمييز أو الحال . والتقدير : كفاكم الله شهيدا {[4274]} . والمعنى كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وتلك أكرم شهادة له بصحة نبوته وصدق ما جاء به . أو كفى الله شاهدا على أنه مظهر دينه على الأديان كافة{[4275]} .


[4274]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 380.
[4275]:تفسير الطبري جـ 26 ص 68، 69 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 201.