في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

28

ثم تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية ، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة ، والنفس المعتزة بالله . وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ، تذهله الثروة ، وتبطره النعمة ، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة . ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى ، فلن تخذله القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه ، الذاكر لربه ، يرى النعمة دليلا على المنعم ، موجبة لحمده وذكره ، لا لجحوده وكفره . وتبدأ القصة بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة :

( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ، وحففناهما بنخل ، وجعلنا بينهما زرعا . كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ، وفجرنا خلالهما نهرا . وكان له ثمر ) . .

فهما جنتان مثمرتان من الكروم ، محفوفتان بسياج من النخيل ، تتوسطهما الزروع ، ويتفجر بينهما نهر . . إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال :

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

عطف على جملة { وقل الحق من ربكم } الآيات ؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلاً لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر ، فكان لذلك المَثل شَبَه بمَثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين مِن عصر أهل الكهف ، فضرب مثلاً للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمَثل رجلين كان حالُ أحدهما معجباً مؤنِقاً وحال الآخر بخلاف ذلك ؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تَبَاباً وخسارة ، وكانت عاقبة الآخر نجاحاً ، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء ، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسُنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضاً للصلاح والنجاح .

واللام في قوله : { لهم } يجوز أن يتعلق بفعل { واضرب } كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يتعلق بقوله : مثلاً } تعلق الحال بصاحبها ، أي شبها لهم ، أي للفريقين كما في قوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] ، والوجهُ أن يكون متنازعاً فيه بين ضَرب ، ومثَلاً .

والضمير في قوله : { لهم } يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر ، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني .

ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالاً معروفاً فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس . فقال الكلبي : المعنيُّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد يالِيل ، والآخر مسلم وهو أخوه : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل . ووقع في « الإصابة » : بن هلال ، وكان زوجَ أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان ، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة .

وعن ابن عباس : هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالاً فاشترى أحدهما أرضاً وجعل فيها جنتين ، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه الله تعالى في هذه السورة ، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات ( 50 52 ) في قوله : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول إنك لمن المصدقين } الآيات . . فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف .

وإن كان حال الرجلين حالاً مفروضاً كما جَوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة . قال ابن عطية : فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجملَ منها في مكاسب الناس ، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] الآيات .

والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله : { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } [ الكهف : 37 ] الخ فقد جاء ( قال ) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله : { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا } [ الكهف : 43 ] أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية .

ومعنى { جعلنا لأحدهما } قدرنا له أسباب ذلك .

وذِكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } في سورة البقرة ( 266 ) .

ومعنى { حففناهما } أحطناهما ، يقال : حفّه بكذا ، إذا جعله حافاً به ، أي محيطاً ، قال تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ، لأن ( حف ) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثانٍ عدي إليه بالباء ، مثل : غشيه وغشاه بكذا . ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة .

ومعنى { وجعلنا بينهما زرعاً } ألهمناه أن يجعل بينهما . وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين : كانت الجنتان تَكْتنِفان حَقْل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة . وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الذين سألوك أن تطرُد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، "مَثلاً مثل رَجُلَينِ جَعَلْنا لأَحَدهِما جَنّتَيْنِ "أي جعلنا له بستانين من كروم، "وحَفَفْناهُمَا بنَخْلٍ" يقول: وأطفنا هذين البستانين بنخل. وقوله: "وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعا" يقول: وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين}... فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً، لثمر أعاليها وزرع أسافلها، وهو معنى قوله: {وجعلنا بينهما زرعاً}...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} أي ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين... {جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب} بستانين من كروم... {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة...

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بماء وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو السيح بالنهر الجاري فيها...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الضمير في {لهم} عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي عليه السلام أن يطرد فقراء المؤمنين {الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الكهف: 28] وعلى أولئك الداعين أيضاً، فالمثل مضروب للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبر في قريش أو بني تميم على الخلاف المذكور أولاً، والرجل المؤمن المقر بالربوبية، هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم... {وحففناهما} بمعنى وجعلنا ذلك لها من كل جهة، تقول: حفك الله بخير، أي: عمك به من جهاتك، و «الحفاف» الجانب من السرير والفدان ونحوه، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجوداً، وعلى ذلك فسره أكثر أهل هذا التأويل، ويحتمل أن يكون مضروباً بمن هذه صفته وإن لم يقع ذلك في وجود قط، والأول أظهر...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنيا والغني فقيرا، أما الذي يجب حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال: {واضرب لهم مثلا رجلين}...

{جعلنا لأحدهما جنتين}، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات:

الصفة الأولى: كونها جنة، وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية.

والصفة الثانية: قوله: {وحففناهما بنخل} أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين نظيره قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} أي واقفين حول العرش محيطين به...

الصفة الثالثة: {وجعلنا بينهما زرعا} والمقصود منه أمور:

أحدها: أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه.

وثانيها: أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض.

وثالثها: أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان إنما محط حال المشركين العاجل، وكان قد تقدم قولهم

{أو يكون لك جنة من نخيل وعنب} [الإسراء: 91] الآية، وقوله تعالى:

{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} [الكهف:7] الآية، وقوله تعالى: في حق فقراء المؤمنين الذين تقذروهم {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 28] الآية واستمر إلى أن ختم بأن جنات المؤمنين عظيم حسنها من جهة الارتفاق، عطف على قوله تعالى

{وقل الحق من ربكم} [الكهف: 29] قوله تعالى كاشفاً بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلاً لأن يفتخر به لأنه إلى زوال: {واضرب لهم} أي لهؤلاء الضعفاء والمتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم: {مثلاً} لما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا، فاعتمدوا عليهم وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه، بل أداهم إلى الافتقار والتكبر على من زوى ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه {رجلين} فكأنه قيل: فما مثلهما؟ فقيل: {جعلنا} أي بما لنا من العظمة {لأحدهما} وهو المجعول مثلاً لهم {جنتين} أي بساتين يستر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما على أي وضع من الأوضاع كانتا، ومن جملة الأوضاع أن تكون إحداهما في السهل والأخرى في الجبل، ليبعد عموم عاهة لهما لأنها إما من برد أو حر {من أعناب} لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر، وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها {وحففناهما} أي حطناهما بعظمتنا {بنخل} لأنها من أشجار البلاد الحارة، وتصبر على البرد، وربما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات، وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخل فكأن النخل كالإكليل من وراء العنب، وهو مما يؤثره الدهاقين لأنه في غاية البهجة والمنفعة {وجعلنا بينهما} أي أرضي الجنتين {زرعاً} لبعد شمول الآفة للكل، لأن زمان الزرع ومكانه غير زمان أثمار الشجر المقدم ومكانه، وذلك هو العمدة في القوت، فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفواكه وأفضل الأقوات، وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع سعة الأطراف، وتباعد الأكناف، وحسن الهيئات والأوصاف.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{واضرب لَهُم}... {مَثَلاً رَّجُلَيْنِ}... أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالُهما المستفادةُ مما ذكر آنفاً من أن للأولين في الآخرة كذا بل من حيث عصيانُ الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعةِ الآخرين مع مكابدتهم مشاقَّ الفقر مثلاً حالَ رجلين مقدَّرَين أو محقَّقَين...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة، والنفس المعتزة بالله. وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة. ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه. وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه، الذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، موجبة لحمده وذكره، لا لجحوده وكفره. وتبدأ القصة بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب، وحففناهما بنخل، وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا، وفجرنا خلالهما نهرا. وكان له ثمر).. فهما جنتان مثمرتان من الكروم، محفوفتان بسياج من النخيل، تتوسطهما الزروع، ويتفجر بينهما نهر.. إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال:...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {وقل الحق من ربكم} الآيات؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلاً لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر، فكان لذلك المَثل شَبَه بمَثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين مِن عصر أهل الكهف، فضرب مثلاً للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمَثل رجلين كان حالُ أحدهما معجباً مؤنِقاً وحال الآخر بخلاف ذلك؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تَبَاباً وخسارة، وكانت عاقبة الآخر نجاحاً، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسُنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضاً للصلاح والنجاح...

ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالاً معروفاً فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس. فقال الكلبي: المعنيُّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد يالِيل...

وعن ابن عباس: هما أخوان من بني إسرائيل...

وإن كان حال الرجلين حالاً مفروضاً كما جَوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة... وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة} [البقرة: 265] الآيات.

والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب} [الكهف: 37] الخ فقد جاء (قال) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة، ومثل قوله: {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} [الكهف: 43] أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية.

ومعنى {جعلنا لأحدهما} قدرنا له أسباب ذلك.

وذِكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} في سورة البقرة (266).

ومعنى {حففناهما} أحطناهما، يقال: حفّه بكذا، إذا جعله حافاً به، أي محيطاً، قال تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75]، لأن (حف) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثانٍ عدي إليه بالباء، مثل: غشيه وغشاه بكذا. ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة.

ومعنى {وجعلنا بينهما زرعاً} ألهمناه أن يجعل بينهما. وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين: كانت الجنتان تَكْتنِفان حَقْل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة. وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيما ورد من حوار حولها أم في أشخاصها...

هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا، ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمِرُّ المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

الإيمان هو الثروة الحقيقية:

وينطلق القرآن في الاتجاه المتمثل في رفض اعتبار الثروة المالية قيمةً حياتيةً كبيرةً بعيداً عن الإيمان ومسؤوليته، فيصوّر لنا صورة رجلين، يملك أحدهما الثروة والجاه والولد، بينما لا يملك الآخر ما يملكه صاحبه، ولكنه يملك الإيمان بالله، والإحساس بعظمته وبفضله على الإنسان في كل شيء، ما يجعله يحسُّ بنعم الله عليه في كل مظهر من مظاهر وجوده، ويعرف إلى جانب ذلك قيمة الحياة ودورها ووظيفتها في مسؤولية الإنسان، فلا يستسلم لنعيمها، ولا يضعف أمام شقائها، لأنه يعلم أن ذلك كله بيد الله، الذي اقتضت حكمته أن يزول ذلك كله، فلا يبقى للإنسان منه إلا النتائج العملية لما قام به من دور في الحياة. وبهذا يتجسّد لنا الفارق الكبير بين العقليتين والاتجاهين في فهم الحياة، من خلال الحوار الذي أداره القرآن الكريم بين الرجلين، لنستوحي منه الفكرة التي تحكم الموقف في حساب القيم والمعاني الكبيرة في الإسلام. إنها الصورة الرائعة التي يجسّدها لنا القرآن في أسلوبه الرائع. فنحن نرى في الصورة أن صاحب الجنتين قد بدأ الحوار مع صاحبه من موقع الإحساس بالقوة والفوقية والامتياز، بسبب ما يملك من كثرة المال والأتباع، فكان خطابه معه ينطلق من محاولته لإخضاعه نفسياً، بمواجهته بواقع الفارق الكبير بينهما، وتميزه عنه...