التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

عطف على جملة { وقل الحق من ربكم } الآيات ؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلاً لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر ، فكان لذلك المَثل شَبَه بمَثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين مِن عصر أهل الكهف ، فضرب مثلاً للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمَثل رجلين كان حالُ أحدهما معجباً مؤنِقاً وحال الآخر بخلاف ذلك ؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تَبَاباً وخسارة ، وكانت عاقبة الآخر نجاحاً ، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء ، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسُنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضاً للصلاح والنجاح .

واللام في قوله : { لهم } يجوز أن يتعلق بفعل { واضرب } كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يتعلق بقوله : مثلاً } تعلق الحال بصاحبها ، أي شبها لهم ، أي للفريقين كما في قوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] ، والوجهُ أن يكون متنازعاً فيه بين ضَرب ، ومثَلاً .

والضمير في قوله : { لهم } يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر ، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني .

ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالاً معروفاً فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس . فقال الكلبي : المعنيُّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد يالِيل ، والآخر مسلم وهو أخوه : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل . ووقع في « الإصابة » : بن هلال ، وكان زوجَ أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان ، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة .

وعن ابن عباس : هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالاً فاشترى أحدهما أرضاً وجعل فيها جنتين ، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه الله تعالى في هذه السورة ، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات ( 50 52 ) في قوله : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول إنك لمن المصدقين } الآيات . . فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف .

وإن كان حال الرجلين حالاً مفروضاً كما جَوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة . قال ابن عطية : فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجملَ منها في مكاسب الناس ، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] الآيات .

والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله : { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } [ الكهف : 37 ] الخ فقد جاء ( قال ) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله : { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا } [ الكهف : 43 ] أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية .

ومعنى { جعلنا لأحدهما } قدرنا له أسباب ذلك .

وذِكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } في سورة البقرة ( 266 ) .

ومعنى { حففناهما } أحطناهما ، يقال : حفّه بكذا ، إذا جعله حافاً به ، أي محيطاً ، قال تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ، لأن ( حف ) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثانٍ عدي إليه بالباء ، مثل : غشيه وغشاه بكذا . ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة .

ومعنى { وجعلنا بينهما زرعاً } ألهمناه أن يجعل بينهما . وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين : كانت الجنتان تَكْتنِفان حَقْل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة . وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد .