البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

حفه : طاف به من جوانبه .

قال الشاعر :

يحفه جانباً نيق ويتبعه***مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وحففته به : جعلته مطيفاً به ، وحف به القوم صاروا في حفته ، وهي جوانبه .

{ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } .

قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافراً ، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمناً .

وقيل : أخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل : اسمه قطفير ، ويهوذا وهو المؤمن في قول ابن عباس .

وقال مقاتل : اسمه تمليخا وهو المذكور في الصافات في قوله { قال قائل منهم إني كان لي قرين } وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله .

وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركاً في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها .

وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً .

وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضاً بألف وبنى داراً بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف ، واشترى المؤمن أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، وجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به ، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به ، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله .

والضمير في { لهم } عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد الضعفاء المؤمنين ، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين ، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره ، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيراً ، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير { واضرب لهم مثلاً } قصة { رجلين } وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لرجلين .

وأبهم في قوله { جعلنا لأحدهما } وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث ، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة .

وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا لأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة قال : فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية .

قال ابن عطية : وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين ، يسقى جميع ذلك من النهر .

وقال الزمخشري : { جنتين من أعناب } بساتين من كروم ، { وحففناهما } { بنخل وجعلنا } النخل محيطاً بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى .