اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

قوله تعالى : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآية .

وجه النَّظم أن الكفار ، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً ، والفقير غنيًّا ، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين ، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل ؛ فقال : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين ، وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما : كافرٌ ، واسمه [ براطوس ]{[21042]} ، والآخر : مؤمنٌ ، اسمه يهوذا ، قاله ابن عباس{[21043]} .

وقال مقاتل : اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر قطروس .

وقيل : قطفر ، وهما المذكوران في سورة " الصافات " في قوله تعالى : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } [ الصافات : 51 ، 52 ] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ{[21044]} ، قال : كانا رجلين شريكين ، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ .

وقيل : كانا أخوين ، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما أربعة آلاف دينارٍ ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف ، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة ، فتصدَّق به .

ثم [ بنى ]{[21045]} أخوه داراً بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة ، فتصدق به .

ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ، وتصدَّق به .

ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم ، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف ، فتصدَّق به ، ثم أحاجه ، أي : أصابه حاجةٌ ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرَّ به في خدمه وحشمه ، فتعرَّض له ، فقال : فلانٌ ؟ ! قال : نعم ، قال : ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجةٌ بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير ، قال : ما فعل مالك ، وقد اقتسمنا المال [ سويَّة ]{[21046]} ، فأخذت شطره ؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ ، قال : إنَّك لمن المصدِّقين ، اذهب ، فلا أعطيك شيئاً .

وقيل : نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم ، أحدهما : مؤمنٌ ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل ، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافرٌ ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل .

قوله : { رَّجُلَيْنِ } : قد تقدم أنَّ " ضرب " مع المثل ، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة ، وقال أبو البقاء{[21047]} : التقدير : مثلاً مثل رجلين ، و " جَعلْنَا " تفسير ل " مَثَل " فلا موضع له ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً ل " رَجُليْنِ " كقولك : مررتُ برجلين ، جعل لأحدهما جنَّةٌ .

قوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } يقال : حفَّ بالشيء : طاف به من جميع جوانبه ، قال النابغة : [ البسيط ]

يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ *** مِثلَ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ{[21048]}

وحفَّ به القوم : صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته ، وحففته به ، أي : جعلته مطيفاً به .

والحِفاف : الجانبُ ، وجمعه أحِفَّةٌ ، والمعنى : جعلنا حول الأعناب النَّخْل .

قال الزمخشريُّ : وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم ، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضاً حسنٌ في [ المنظر ]{[21049]} .

قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } قيل : كان الزَّرع في وسط الأعناب ، وقيل : كان الزَّرْع بين الجنَّتين ، أي : لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ .

والمقصود منه أمور{[21050]} :

الأول : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه .

والثاني : أن تكون متَّسعة الأطراف ، متباعدة الأكناف ، ومع ذلك ، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض .

والثالث : أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [ يوم ]{[21051]} بمنفعةٍ أخرى ، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصلة .


[21042]:في ب: بطرس.
[21043]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (10/259).
[21044]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (3/306) والبغوي (3/161) وينظر: المصدر السابق.
[21045]:في ب: اشترى.
[21046]:سقط من ب.
[21047]:ينظر: الإملاء 2/102.
[21048]:ينظر البيت في البحر 6/118، روح المعاني 15/273، الدر المصون 4/454.
[21049]:في أ: النظم.
[21050]:ينظر: الفخر الرازي21/106.
[21051]:في ب: التكثير.