السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغنيّ فقيراً وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور بقوله تعالى : { واضرب لهم } ، أي : لهؤلاء الأغنياء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم { مثلاً } لما آتاهم الله من زينة الحياة والدنيا واعتمدوا عليه وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه بل أدّاهم إلى الافتخار والتكبر على من زوي ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه { رجلين } إلى آخر الآية . واختلف في سبب نزولها فقيل نزلت في رجلين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر كافر وهو الأسود بن عبد ياليل ، وهما ابنا عبد الأسد بن عبد ياليل .

وقيل مثال لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس ، وقال مقاتل : تمليخا والآخر كافر واسمه فطروس وقال وهب قطفر ، وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كانا رجلين شركين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار وإني مشتر منك أرضاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلاناً بنى داراً بألف دينار وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم تزوّج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدّق بها ثم إنّ صاحبه اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أشتري خدماً ومتاعاً من الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال له : فلان ؟ قال : نعم . قال : ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتعينني بخير قال : فما فعل مالك وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدّقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده . وروي أنه لما أتاه أخذ بيده فجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما { واضرب لهم مثلاً رجلين } ، أي : اذكر لهم خبر رجلين ؛ { جعلنا لأحدهما جنتين } ، أي : بستانين يسر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما { من أعناب } لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها ، ثم إنه تعالى وصف الجنتين بصفات الصفة الأولى قوله تعالى : { وحففناهما } ، أي : اطفناهما من جوانبهما { بنخل } لأنها من أشجار البلاد الحارّة ، وتصبر على الحرور بما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخلّ ، فكان النخل كالأكليل من وراء العنب .

تنبيه : الحفاف الجانب وجمعه أحفة يقال : أحف به القوم ، أي : أطافوا بجوانبه . الصفة الثانية قوله تعالى : { وجعلنا بينهما } ، أي : أرضي الجنتين { زرعاً } لبعد شمول الآفة للكل لأنّ زمان الزرع ومكانه غير زمان ثمار الشجر ومكانه وذلك هو العمدة في القوت فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفاكهة وأفضل الأقوات وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف .