في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ} (60)

26

واللّه يجبههم هنا بالافتراء ، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه :

( وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ? ) . .

وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على اللّه الكذب وتنتظمهم جميعاً . . فما ظنهم يا ترى ? ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة ! ! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية !

إن اللّه لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون . .

واللّه ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم ؛ وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره ؛ والنواميس التي تحكم هذه المصادر ، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله ، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال . . وكله في الكون وفيهم من رزق اللّه . .

واللّه ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ؛ ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم ؛ الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ؛ ومشاعر واتجاهات ؛ والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة ؛ كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه .

ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك . . فإذا هم يحيدون عن منهج اللّه وشرعه ؛ وإذا هم يشركون به غيره . . ثم يشقون في النهاية بهذا كله . . يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور !

وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة . . إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء . . إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول ! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب . ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية ، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية . ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله ، وإلى العدل في الجزاء ، وإلى غلبة الخير ، وإلى حسن المصير . .

وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل ، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ} (60)

عطف على { جملة قل أرأيتم } [ يونس : 59 ] ، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به ، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس . و { ما } للاستفهام . والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم . والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم .

ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ( هم ) مضافاً إليه الظن إما ضميرَ خطاب أو غيبة . فيقال : وما ظنكم أو وما ظنهم ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترْديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرَّموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني ، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم ، فإذ تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم . وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة .

وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له ، أي ما ظنهم بحالهم وبجزائهم وبأنفسهم . وانتصب { الكذبَ } على المفعول المطلق ، واللام فيه لتعريف الجنس ، كأنه قيل كذباً ، ولكنه عرف لتفظيع أمره ، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول .

و { يوم القيامة } منصوب على الظرفية وعامله الظن ، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذٍ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون ، وهذا تهويل .

وجملة : { إن الله لذو فضل على الناس } تذييل للكلام المفتتح بقوله : { يأيها الناس قد جاءتكم موْعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور } [ يونس : 57 ] . وفيه قطع لعذر المشركين ، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة .